
الذوق الرفيع .. مصطفى لغتيري
“لا مشاحة في الأذواق” عبارة ترددت على مسامعنا كثيرا، وتعني فيما تعنيه أن الأذواق تختلف من شخص إلى آخر، وليس من حقنا أن نلوم شخصا ما على ذوقه، حتى وإن اختلف مع ذوقنا.. هذا كلام جميل وعام وقد يتفق معه الكثير من الناس، كما قد يختلف معه الكثيرون، لذا لن نتعب أنفسنا بالخوض في تفاصيله، ولنركز حديثنا –بالمقابل-عن الذوق الرفيع فقط.
فماذا نقصد به؟ وما هي تجلياته؟
أعتقد أن الذوق الرفيع مرتبط -في بعد من أبعاده- بمستوى ثقافي معين، ولا أقصد المستوى التعليمي طبعا، فكم من متعلم لا يملك من الثقافة سوى القشور، وكم من مثقف اكتسب ثقافته بعصاميته، دون أن يمر بمراحل التعليم الأكاديمية المعروفة..
لماذا ربطت التعليم بالثقافة؟ ودون أن أغوص عميقا أو بشكل مسهب في التحليل، يكفي أن أقول إن الإنسان بطبعه الأول قريب إن لم يكن لصيقا بالطبيعة الحيوانية، والثقافة وحدها هي الكفيلة بإنقاذه من ربقة التصرفات الحيوانية السمجة، فقد ثبت بالملموس ومن خلال التجارب العلمية أن الإنسان لا يزداد إنسانا وإنما يكتسب صفة الإنسانية بفضل التنشئة الاجتماعية، وكلما زادت ثقافته نقصت السلوكات البدائية العنيفة لديه، وقد ركزت هذه التجارب على الأطفال فلوحظ أن الطفل كلما اكتسب اللغة، وهي –كما هو معروف- شكل من أشكال التعبير الثقافي، أصبح أكثر استعمالا للسانه في حل مشاكله، من استعماله ليديه، ويمكن لأي شخص أن يلاحظ أن العنف دوما يبدأ تحديدا حينما تعجز اللغة عن حل المشاكل بالإقناع أي باللغة، أي بالثقافة والتي تعد اللغة إحدى وسائلها المرموقة كما انها أحد تجلياتها الأكثر بروزا، وبالمثل فإن الميولات الفنية كالرسم والنحت والموسيقى ترقى بإنسانية الإنسان أكثر، وتخلصه من الميولات العدوانية، و تبعده أشواطا عدة عن الحيوان الكامن في أعماقه والمتربص به دوما، متحينا الفرصة للظهور كلما لمس تراخيا لدى الانسان للدفاع عن إنسانيته، لذا فليس غريبا أن تستعمل هذه الفنون كعلاج للأزمات النفسية والارتكاسات السيكولوجية في كثير من بلدان العالم، حتى أضحت بعض المستشفيات تخصص مكانا معتبرا للعلاج بواسطة الفن.
فكيف يعبر الذوق الرفيع عن نفسه إذن؟
بالطبع يتخذ الذوق الرفيع في التعبير عن نفسه أشكالا متعددة، فأن تهدي لشخص عزيز وردة منتقاة أو قصيدة رقيقة العبارات، أو قطعة موسيقية، فليس سوى تعبير عن مستوى حضاري ما، وترجمة لذوق رفيع لا جدال فيه.. أن تجلس في ركن قصي وتحمل كتابا تغوص في أسطره بصمت الجبابرة، وأنت تصغي لإحدى المقطوعات الموسيقية الخالدة هو عينه الذوق الرفيع، الذي أقصده.. أن ترتب ملابسك بشكل معين، فيه الكثير من التفكير والحرص على أن لا تسيء للإنسان فيك، وتقدمه بما يليق به ككائن متحضر، فذلك قمة الذوق الرفيع. أن تحترم الآخر وتقدره وتنصت إليه، وتتحدث بكثير من الشك فيما تقول، بعيدا عن اليقين الجامد، والادعاء الفارغ بامتلاك الحقيقة المطلقة، لهو الذوق الرفيع ما يتجسد في تصرفك.. أن تحرص على الانسجام في كل عمل تقوم به، وفي علاقتك مع الآخرين وفي الوسط الذي تحيا فيه، فذلك قمة الذوق الرفيع.. أن تصغي للإيقاع الخفي الذي ينتظم الحياة وتحاول ألا تخدش سمفونيته الصامتة، بل تساهم من جهتك في أن يستمر هذا الانسجام، الذي يمكن أن تشعر به في اللوحة التشكيلية وفي الشجرة وفي هبة ريح وفي شقشقة الصبح وفي تحليق نورس في عرض المحيط، وتنظر بعين القداسة والتبجيل إلى هذه السمفونية الرائعة، فليس كل ذلك سوى تعبير عن رونق الذوق الرفيع. أن تتعامل مع الناس بدون أحكام مسبقة أو كليشيهات جاهزة فذلك يعبر -بلا شك- عن ذروة الذوق الرفيع.. أن تؤمن يحق الحيوان والنبات في الحياة بشكل أفضل، وتعتبره تجليا لروح الحياة بشكل مختلف، وبأنه إضافة نوعية تغني هذا التنوع الذي تزخر به الحياة، لهو الذوق الرفيع في أعمق مظاهره.
وخلاصة القول، بالذوق الرفيع نرقى، وبرقينا نتجاوز أنفسنا ونساهم في دعم الجانب الإنساني فينا، ونكون -بالتالي- جسرا للإنسان كي عبر من خلالنا نحو مستقبله المشرق، البعيد عن الابتذال والشوفنية والهمجية المطلقة.

Share this content: