قصة قصيرة للقاصة المغربية سلوى إدريسي والي – المعلم –

Saloua Idressi

مرت ثلاث سنوات منذ آخر مرة زرتُ فيها عائلتي، بعد أن تم تعييني معلمًا في إحدى القرى النائية.

كانت أمنيتي أن أصبح رسامًا مشهورًا.

وصلتُ أخيرًا إلى مدينتي التي تعجُّ بذكريات طفولتي وشبابي.حاولتُ أن أدخلها ليلًا، فأنا لا أريد أن يلحظ عودتي أحدُ أصدقائي القدامى، فقد أصبح جسدي نحيلًا، وتعلو وجهي صفرةٌ كأنني مريضٌ بمرضٍ عضال.

كلُّ ما أتمناه الآن هو أن تتعرّفَ عليَّ والدتي.

كان الباب مواربًا، كعادته منذ سنين. كان والدي كثيرَ الدخول والخروج من المنزل، بسببٍ أو دون سبب.

كانت ممدَّدةً فوق أريكةٍ قبالةَ الباب، إنه مكانها المفضَّل، وكأنها تنتظرعودة الغائبين. ارتميتُ في حضنها، فشعرتُ بتيبُّسٍ في جسدها، ثم استرخاء، ثم عبراتٍ تنهمرُ كاللآلئ.

شَمَّتْ رائحةَ جسدي، وتنهدت تنهيدةً طويلة، ثم قالت: “ولدي… كبدي…”

كانت صُوَري معلَّقةً على الجدران، وكأنني الفقيدُ الشهيد. عرفتُ حينها أن لا مكانَ لي هنا،سوى موضعٍ لبروازٍ بدأ السوسُ ينخرُ أضلاعه.

تجاذبنا أطراف الحديث، حاولتُ إخبارها أنني تزوَّجتُ، وأن لديَّ طفلين، وأن امرأتي فتاةٌ من القرية كنتُ أُدرِّسها سابقًا.

كيف أخبرها بتعاستي، وأنا لا أستطيع إنقاذ أسرتي الصغيرة من ذلك المجهولِ الذي يتربّصُ بهم وبمستقبلهم؟

يمرضُ صغيراي، فلا أستطيع أخذهما إلى الطبيب أو حتى إلى مستوصف، فأذهبُ بهما، كأي إنسانٍ جاهل، إلى الفقيهِ لينفثَ على وجهَيْهما ويتمتمَ بكلماتٍ وطلاسمَ أعرفُها أنا أيضًا، لكنها لا تؤتي أُكلها إلا على يديه.

أعودُ بهما إلى المنزل،ورأسي يعجُّ بمعلوماتٍ عن الالتهاباتِ والفيروساتِ التي لا تُعالجُ إلا بمضادٍّ حيوي، لكن الصغير، بعد عودته، يبدأُ باللعب والقفزِ كأنَّه لم يكن محمومًا بالأمس.أنامُ يومًا كاملًا كلما عدتُ من عند الفقيه، محاولًا أن أنسى هذا العبث.

أمي أيضًا مهمومة، في عينيها حزن، أو ربما مرارة.

كانت آخر مرة رأيتها فيها عند دفن والدي. ربما هي الوحدة، أو اليأس.

وجَّهت إليَّ سؤالًا كنتُ أنتظره منذ أول تنهيدة: “متى تعود إلى حضني يا ولدي؟ لقد طال الغياب…”

لم أستطع رفعَ رأسي والنظرَ إلى وجهها،فاكتفيتُ بتمتمة: “يفعل الله الخير.”

ثم خفَّضَت رأسها هي أيضًا، وانقطع بيننا الكلام، وغرقنا معًا في تساؤلاتٍ لا حصرَ لها…

هي تفكر في وحدتها، وأنا أفكر في مصيري ومصير أبنائي.

انقضت أيامُ إجازتي بسرعة، كأنها لم تكن سوى حضنٍ فوق أريكة، ووجهٌ يائسٌ يُودِّع.

ركبتُ القطارَ عائدًا إلى القرية التي تقع بين جبلين عملاقين، كأنهما إلهان يتصارعان، ونحن مجردُ قرابينَ لهما.

فكَّرتُ في البقاء مع أمي وتركِ أسرتي لمصيرها. أمُّهم تستطيع العيشَ هناك، فهو موطنها الذي لا تعرف غيره، لكنَّ ضحكاتِ الصغيرين تجرُّني نحو العودة.

صفارةُ القطارِ تخترقُ دواخلي، تشعرني ببعضِ الخوف، كأنها صرخةُ روحٍ معذَّبة، وكأنني أحملُ القطارَ فوق ظهري، متمنيًا ألا نصلَ أبدًا…

لكن سرعان ما توقَّف.

ورماني كقطعةِ خردةٍ على حافَّةِ الطريق.

ينتظرني هناك شابٌّ بحمار، يحملني إلى القرية عبر منعرجاتٍ لا ينجو منها إلا ذو حظٍّ عظيم.

ارتميتُ أخيرًا في حضنِ أسرتي، عناقٌ حارٌّ ونظراتُ اشتياق.

زوجتي تُحضِّرُ بعضَ الشاي، ترمقني بخجلٍ بعينيها الطفوليَّتَيْن، كأنها تريد البوحَ وإطلاقَ العنانِ لتنهيداتها هي أيضًا، لكنها فضَّلَت الصمتَ في وجود الصغيرين، واكتفت بقول: “كانت إجازةٌ طويلةٌ هذه المرة، اشتاقَ لك الأولاد.”

تذكَّرتُ حينها قول محمود درويش:

“لا شيء يعجبني… أريد أن أبكي…”

سلوى إدريسي والي

Share this content:

  • Related Posts

    “بين غواية الحرف وصرخة الذات “يكتب القارئ المتميز والشاعر المغربي عبد العزيز برعود عن التجربة الشعرية للأديبة المغربية نعيمة معاوية -خريبكة اليوم – المغرب

    عبد العزيز برعود. المغرب تقديم: تتربع الشاعرة المغربية نعيمة معاوية على ضفاف التجربة الشعرية المعاصرة كصوت نسائي متفرد، يكتب من عمق المعاناة، وينتصر للأنوثة والروح والجمال. في قصائدها نلمح نبضًا إنسانيًا شفافًا، تتداخل فيه أبعاد الحب، والفقد، والانتظار، والتمرد، والموت، في مشهد شعري أقرب إلى صلوات الذات في محراب الوجود. وما بين (رقصة موت)1 ، و(أغار)1، و(قيثارة الحب)1، و(لا تسلني)1، وغيرها،…

    Read more

      اليوم ؛ جملة مما دونته على حائطي الفيسبوكي.عبد الرحيم هريوى – خريبكة اليوم – المغرب

    ما دونته اليوم على حائطي الفيسبوكي كتعبير عابر عن ما خالج الكيان من أفكار عن الواقع والبشر والأخلاق وما أفسده الزمان من هكذا سلوكيات   في هذا العالم، لا يوجد خير مطلق ،ولا يوجد شر مطلق ،الخير والشر ليسا كيانين ثابتين ومستقرين ، ولكنها يتناوبان مكانيهما باستمرار .فالخير قد يتحول إلى شر في الثانية المثالية والعكس بالعكس .كانت هذه هي حال العالم…

    Read more

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    You Missed

    “بين غواية الحرف وصرخة الذات “يكتب القارئ المتميز والشاعر المغربي عبد العزيز برعود عن التجربة الشعرية للأديبة المغربية نعيمة معاوية -خريبكة اليوم – المغرب

    “بين غواية الحرف وصرخة الذات “يكتب القارئ المتميز والشاعر المغربي عبد العزيز برعود عن التجربة الشعرية للأديبة المغربية نعيمة معاوية -خريبكة اليوم – المغرب

    لا فرق لنا اليوم بين فريق” الكونغو أوالطوغو أو جزر القمر “فكلهم قد اتفقوا عنوة على إفساد أي عرس كروي ضد منتخبنا وهم  يركنون للدفاع..عبد الرحيم هريوى – خريبكة اليوم – المغرب

    لا فرق لنا اليوم بين فريق” الكونغو أوالطوغو أو جزر القمر “فكلهم قد اتفقوا عنوة على إفساد أي عرس كروي ضد منتخبنا وهم  يركنون للدفاع..عبد الرحيم هريوى – خريبكة اليوم – المغرب

    أين يكمن الوعي لدى القاصة المغربية سلوى ادريسي والي..؟؟ خريبكة اليوم – المغرب

    أين يكمن الوعي لدى القاصة المغربية سلوى ادريسي والي..؟؟ خريبكة اليوم – المغرب

    لا يمكن لأي قارئ أن يمتلك نفسا طويلا في قراءة النصوص الروائية الطويلة والمؤسسة للفكر الإنساني في مجال الأدب..عبد الرحيم هريوى – خريبكة – المغرب

    لا يمكن لأي قارئ أن يمتلك نفسا طويلا في قراءة النصوص الروائية الطويلة والمؤسسة للفكر الإنساني في مجال الأدب..عبد الرحيم هريوى – خريبكة – المغرب

      اليوم ؛ جملة مما دونته على حائطي الفيسبوكي.عبد الرحيم هريوى – خريبكة اليوم – المغرب

      اليوم ؛ جملة مما دونته على حائطي الفيسبوكي.عبد الرحيم هريوى – خريبكة اليوم – المغرب

    جواز سفري لأمصار شتى هو كتاب قرأته..عبد الرحيم هريوى -خريبكة اليوم – المغرب

    جواز سفري لأمصار شتى هو كتاب قرأته..عبد الرحيم هريوى -خريبكة اليوم – المغرب