اليوم أولى جولاته لبدء عملية الإحصاء، إنه نفس الحي الصفيحي الذي أحصى ساكنته سنة 2014.
قفزت إلى ذهنه صورة تلك المرأة الأرملة. أطرق رأسه وهو يتساءل عما آل إليه وضعها، ابتسم وهو يستعيد شريط استقبالها له في بيتها الصفيحي، حين طرق باب براكتها المغطى بالصدأ لأول مرة، فأطلّت من ورائه، تلك المرأة السمراء القوية البنية، والفارهة الطول وهي تستفهم عن سبب مجيئه؟

  • السلام عليكم ألالة، إيلا سمحتي لينا ناخدوا من وقتكم. احنا الناس ديال الإحصاء بغيناكم تجاوبونا على مجموعة أسئلة .
  • مرحبا بناس المخزن أسيدي ادخل.

ما زال يتذكر حين تقدم بخطوات سلسة نحو البهو الذي يزينه علم البلاد، فباغته صوت الحمداوية صادحا: ” هزو بنا العلام زيدو بنا القدام إلا خيابت دابا تزيان”.

ينظر من بعيد إلى مجمع الأكواخ الصفيحي، وهو يحث الخطى نحو أول زقاق صفيحي. ينعطف يمينا ثم يسارا، يتقدم نحو باب “البراكة” نفسها التي أحصى ساكنيها منذ عشر سنوات، وقبل أن يمد يده نحو الباب، تقع عيناه على منظر لم يتبيّن من سواده إلا بقايا الأثاث المحترق، يجول بناظره على بعد أمتار قليلة، فتطل المرأة السمراء نفسها من فوهة خيمة منصوبة إلى جانب حطام البراكة المحترقة. سمرة المرأة غدت شاحبة، وجسدها الذي كان ذات يوم مكتنزا فقد نصف كتلته. كل شيء تغير سوى صوت الحمداوية الذي أخذ يصدح من جديد :
“هزو بنا العلام زيدو بنا القدام إلا خيابت دابا تزيان”.

بعد عناء يوم شاق…يعود إلى البيت. يخلع حذاءه، ثم يمد رجليه المتورمتين فوق السرير، ويصيخ السمع لصوت الشاي وهو ينهمر بسخاء في كوب “العنبة”.
يغفو، ويسمع وهو بين النوم واليقظة صوت الحمداوية يصدح:
“هزوا بنا العلام.. زيدو بنا لقدام إلا خيابت دابا تزيان”.

يتداخل صوت الحمداوية الذي في الحلم، مع صوت زوجته التي في الواقع. تتبدد المسافة الفاصلة بين العالمين ويفتح عينيه دون أن يدري هل فتحهما على حلم في الواقع أم على واقع في حلم، ويدرك أن زوجته قد التقطت أغنية الحمداوية من بين همهمة شفتيه في اللحظة التي نهرته فيها:
ـ وتا دگعد شرب كاس ديال أتاي. الحمداوية را ماتت ثلث سنين هاذي وتا حاجة ما زيانت.

Share this content: