
كانت وظلت ٱبنة الأرياف ..هناك تعيش بين ثنايا عالم الأوجاع والأحزان وتتجرع في صمت قسوة وعذاب حياة لا حد له..!
حنان الطفلة التي كبرت قبل الأوان ..خرجت للدنيا كي تكد وتتعب وتواجه صعوبة العيش بقلة حيلة، وغياب السند والمعين..!
استسلمت الصغيرة ..الطرية حنان للفقر والحاجة عند أول سفر لها خارج البيت الأبوي الذي فتحت فيه عينيها وترعرعت .!
تزوجت صبية؛ وهي لا تعرف إلى أين تحملها أقدارها..ولا ما يخفيه لها الزمان في رحلة الضباب ..!
نعم ؛ لقد زوجوا حنان، وهي طفلة صغيرة ما زالت تحتاج للعناية والدفء والحنان..!
فكيف يا ترى ببنت الرابعة أو الخامسة عشر أن تتكلف بتدبير شأن أسرة وتلبي طلبات تفوق كل قدراتها الجسمية والعقلية، وسط أسرة ريفية محافظة تتشكل من عدة أفراد يجمعهم ماعون واحد ..تقوم بالشغل في الحقل وتربي الأطفال وتلبي طلبات البيت..وهي ما زالت تعيش عالم طفولتها بشكل من الأشكال ..وهي ما زالت لها رغبة في اللعب ومشاركة بنات الدوار حياة الصغار..وحينما تعود للبيت تجد أمها قد طبخت ونكست وحلبت وصبنت..تنام باكرا ..تستيقظ باكرا..!
ٱسمها حنان ،والذي فقدته من قلب والدين وقد رموها رمية للمجهول..قدموها لقمة سائغة لعائلة كي يتزوجها أحد أبنائها الذي يحتاج لمن يلد له أطفالا ، يكبرون مع الزمان..!
لكن كيف ذلك ..!؟
وبأي طريقة كانت..!؟
لا يهم ..!
لا يهم في عالم منعزل لا يرى ما يقع خلف التلال والجبال المحيطة به..!
المهم البنت هناك تتزوج من الولد وينجبون أطفالا،والقادم يبقى في علم الغيب..!
عاشت البئيسة حنان عيشة الشقاء بكل أشكالها وألوانها..!
وما إن وصلت السن الرابعة والعشرين حتى أصبح يحيط بها ستة أطفال، أكبرهم شيماء عمرها سبعة سنين، وزكرياء وماجدة ويونس ومحمد ولمياء.. وكلهم متقاربون في السن..وكأنني بحنان تحمل وتلد وتربي بشكل آلي وتكابد في صمت .. فلا حل لها لأن التقاليد وأعراف القبيلة تطوق عنقها..والبنت كلها عورة وسترتها بزوج يحضنها حتى ولو كان هذا الزوج نفسه الغائب الحاضر في أسرة كبيرة، ما زال الإخوة يعيشون في بيت واحد يضمهم ..وعيشهم مما تنتجه الأرض من زراعة معيشية وتربية بعض المواشي والدواجن ومزاولة بعض الأنشطة الحرفية التي تبقى موسمية ..!
– ظلت حنان تعيش عيشة المظلومة وتكابد أحزانها في دواخلها وتنتظر أي ٱنفراج غير منتظر..مات من مات ..ورحل من رحل ..وظل الحال على ما هو عليه ..وحنان في صراع العيش بين البيت والحقل والأبناء..تكلمت مع زوجها على إيجاد حل للمعاناة من خلال تقسيم تركة الوالدين، والتفكير في مستقبل الأسرة مما أغضب ” عاشور” أخوه لما فتحه في الموضوع..ورفض رفضا باتا في الأمر على أن يبقوا أسرة واحدة كما تركهم الوالدين ..مما سيزيد من حنق عاشور على حنان المسكينة، لأنه يعلم علم اليقين بأنها هي صاحبة الفكرة..!
عاشور الرجل الصلب.. الخشن.. المتعصب والرافض لأي قول يغاير قوله..!
سافر زوج حنان للعمل في أحد الأوراش بالمدينة المجاورة، مما سيتيح الفرصة لعاشور كي ينتقم لنفسه من زوجة أخيه حنان ويعيد الاعتبار لذاته كرجل البيت وسيدها مهما كانت الظروف..!
ٱنطلق مسلسل الانتقام في أبشع صوره ، والتي لا يمكن أن نتصور بدايتها ولا نهايتها، أمام أبنائها من خلال الضرب المبرح والسب والشتم، وما إلى ذلك من لغة التهديد والوعيد..!
– فكيف لهؤلاء الأطفال الصغار أن يفهموا ما يقع لأمهم المسكينة التي لا حول لها ولا قوة..!؟؟!
– أمهم أقدام رجليها تشققت من قساوة الطبيعة و الأشغال الفلاحية الشاقة و التي لا حد لها..!
– فأي صور يحملونها أطفالها عن عمهم أولا..؟؟
– وعن والدهم ثانية..؟؟
– وعن علاقات يحكمها ما يحكمها من لغة التهديد والوعيد والتسلط والقهر..؟؟
عاد زوجها كم مرة للبيت ،اشتكت..أخبرته بما وقع لها في غيابه مع أخيه عاشور..إنها تجاري السحاب بعينيها في السماء..أمامها شبه رجل..فهو لا يقدر على حماية نفسه من بطش أخيه.. فكيف به أن يحمي الزوجة وأولادها..!!؟؟
في يوم من أيام الغضب المقصود ..ولاحل للمسكينة حنان وسط بيئة يحكمها مصير مجهول سواء لها أو لأبنائها وبعدما يكون قد ألف عاشور إهانتها وضربها..!
خرجت بعدما أخذت جميع أبنائها والدموع في عينيها ..!أوقفت أول مركوب صادفته بعد قطع مسافة طويلة بين المسارب والمنعرجات..
– وهل لديها بالطبع في جيبها ثمن الذهاب والإياب ..!؟؟
– ونحن كذلك بالطبع ؛ لا نعرف أي شئ عن ما تملكه المسكينة حنان..!؟؟
طلبت من السائق أن يحملها وأبناؤها مباشرة للمحكمة ، ظنا منها بأنها بتلك الطريقة التي رأتها، بأنها ستجد لنفسها حلا لمشكلتها العويصة مع عاشور.وفي غياب جهل المسكينة لأية مساطير وإجراءات قانونية ملزمة في هذا الباب مثل حالتها..!
دخلت للمحكمة والدموع في عينيها ..فكل من رآها تألم لحالها..
– ٱمرأة شريفة..شامخة..رغم الضعف والفقر الذي تعيشه..لكن القيم الصلبة ..النقية الصافية الموروثة من طهارة في النفس واليد؛ ظاهرة على محياها.. وعلى قولها ..وطلقات كلماتها..!
أدخلت أطفالها بهو المحكمة ..وهي تشكي ظلم وجور عاشور ..
يضربني ويسبني ويشتمني أمام مرآى أطفالي في غياب زوجي الذي يعمل في إحدى الأوراش ..!
المسكينة لا حجة لها..لا بينة إلا الدموع..والرغبة في الحصول على مظلمتها..
لا تعرف المسكينة بأن الطريق جد طويل ووعر، وبأن ما تسعى للوصول إليه يحتاج للكثير ..
– حنان تريد تقسيم الإرث..!
– حنان تريد أن تخرج من بؤسها وفقرها..!
– تريد أن ينتفع أبناؤها وزوجها من التركة..!
عاشور الجبار ..يرفض ويتحدى..!
خرجت المسكينة بعدما علمت بأن صراخها وبكاءها لا ولن ينفعها في ردع عاشور..جمعت أبناءها فوق كرسي طويل بحديقة وسط المدينة وظلت تبكي وتنوح رافعة رأسها للسماء..لا تدري ما تفعله بعدما أغلقت كل الأبواب في وجهها..أطفالها لم يتناولون فطورهم اليوم منذ الصباح الباكر..وها هم يعيشون مع أمهم المكلومة أحزانها وما تكابد في صمت دفين ،وقد تحلقوا حولها وهي تبكي بكاء الخنساء عن أخيها صخر..!
-المارة أنفسهم يشاهدون حالتها البئيسة وهم يتألمون ويتحسسون السبيل عن المشكل الذي يجعلها تبكي هذا البكاء في هذا المكان العام ..بكاء طفل صغير على أمه ..!
في لحظة عابرة ؛ تقدمت ٱمرأة نحوها كي تعرف سبب معاناتها لعلها تقدم لها يد المساعدة..دار بينهما حوار خفيف..شرحت لها في دقائق معدودة مشكلتها التي لا حل لها ،ولا سبيل في حلها في اليوم أو بعد شهور أو سنين على الأقل..أدخلت يدها في جيبها ومدتها بورقة نقدية لعلها تجد في جيبها بما ستعيد أبناءها لعالمهم الضيق والبئيس..ٱنتفضت رافضة الصدقة..قالت لها والدموع تسيل من عينيها:
– يا أختاه أنا ٱمرأة حرة..! وٱبنة أصل وتعلمت الأصول من قبيلتي،ورغم الضعف والحاجة، فإننا نأكل من عمل أيدينا، ولا نمدها إلا الله..!!
– ها هنا عرفت السيدة التي جاءت لتخفف من آلمها ،أي نوع وصنف من هؤلاء النساء أمامها..ٱمرأة شريفة رغم القهر..ٱمرأة ٱبنة الجبل،أخذت منه الصلابة والقوة والعلو والشموخ والتحدي لكل الأعاصير والعواصف ..!
وبينما يجري ذاك الحوار الإنساني ،بين ٱمرأتين جمعهما الحب والرحمة وتقديم يد العون..قدم شاب هو الآخر، وأراد أن يمدها بصدقة..
وها هنا استشاطت غضبا في وجهه تدافع عن شرفها ..عن روح كرامتها وإنسانيتها.. وهي تدفعه بكل قواها ، كي يأخذ ماله ..فهي ليست كما يظن من رآها تبكي كي تستعطف قلوب المارة ويعطونها النوال..هي تبكي لأن بكاء المرأة قد نقرؤه بعدما نعرف أسبابه الحقيقية والخفية ..ولا نقول كما يقوله البعض،بأن سلاح المرأة هو البكاء..وليس ذلك لكل النساء،وفي جميع الظروف والأحوال..
رمى الشاب نقوده وقفل دون أن يأخذ ويعطي معها في الحديث،وهو يبتعد عنها دونما أن يلتفت..هدأت المرأة من روعها وغضبها..!
وهي تقول لها:
لقد عرفتك؛ وعرفت حقيقة أمرك ،وما تكابدينه من آلام وأحزان ،ولكن مساعدتي هاته، لا ولن تدخل في باب الصدقة يا أختاه..!! أنا شاهدتك في أول وهلة ودفعتني قدماي بسرعة البرق نحوك كي أتقصى أمر حالك. وبعدها أحببتك من كل قلبي وبصدق كما أحببت أبناءك هؤلاء ..
-فما شاء الله عليهم..!
-نتمنى من الله أن يحفظهم لك جميعهم..!
وطلبت منها أن تنتظرها بعد الوقت لتذهب مسرعة لأقرب مقشدة وتشتري لهم بعض الحلويات والحليب والشوكولاتة والريب.. وقدمته لهم؛ كهدية من عندها.. وعندما أرادت توديعها دَسَّتْ أوراقا نقدية في غفلة من أمهم في جيب كبير إخوته، و الذي عادت له ٱبتسامته الطفولية، التي لربما قد ٱفتقدها في زمان الضيق والحاجة والقهر التسلط..!وسببه الدوس على كرامة الإنسان،في سبيل متاع الحياة الدنيا، وغياب القيم الروحية وما شرعه الرحمان للمسلمين والمسلمات فوق هذه الأرض..!
دعت المرأة المكلومة لهاته السيدة الرقيقة، عن إحسانها و معروفها وعن كلماتها الطيبة التي ربما أعادت لها بعض الأمل في الغد القريب ثم ودعتها منصرفة لحالها ..!
-فأي مصير ياترى قد ينتظرها عند عودتها لملاقاة عاشور الشرير..!؟!

Share this content: