
كنتُ أسير فوق خطوطٍ تشبه خطوط السكك الحديدية، تتشابك من بعيد،لكنهامستقيمةٌجدًا…مستقيمة إلى حدٍّ لوأن قطارًاواحدًا ضلّ وجهته،لاصطدم بآخردون رحمة.
في تلك اللحظة،كنت أناذلك “الآخر”الذي يصطدم معه كل شيء.الذي لاينحني،ولايراوغ،بل ينظر إلى الأشياء من زاوية واحدة: مستقيمة،قاسية،واضحة كالسيف.
كان يومًا صيفيًا من أيام أغسطس،حين كنتُ أتمشّى على كورنيش “لبلايا”في طنجة.هناك،حيث أنثرأوجاعي بصمتٍ، دون أن ينتبه إليّ أحد.
جلستُ قبالة البحر؛هادئٌ في سطحه،هائجٌ في أعماقي. وكلما هبّت نحوي نسماته المالحة،وكلما تسلّلت رائحة الطحالب إلى أنفي، شعرتُ بأنه يناديني للغوص في داخله.
قمتُ أُلبّي ذلك النداء،واقتربتُ نحو الشاطئ.في داخلي كانت تسكنني قوّةٌعظيمة،لكن جسدي النحيل كان يخشى الغرق.
فتراجعتُ،وجلستُ على كرسيٍّ باردٍ كأيامي،صلبٍ كقَدَري.
كان حولي الكثيرمن الناس:رجالٌ،ونساءٌ،وأطفالٌ مزعجون،وقطٌّ تائه.
لكنّه لم يكن واحدًامنهم.لم يكن بشرًا،ولا حيوانًا.
كان يبدو كخشبةٍ مبلّلة بماء البحر،يزهر بياضُه فوق بشرته السمراء.
كنت أنظر إلى البحر،وفي الوقت ذاته أراقبه بطرف عيني.
كان يقفز بين لحظة وأخرى،وكأن قشعريرةً من البرد تسري في جسده.
ثم بكى…فجأةً،وبصوتٍ يشبه الأنين.كان بكاءغصنٍ انفصل عن أمه الشجرة.
أخرجتُ من حقيبتي منديلاً،وأعطيتُه له.وكأنني كنتُ أمسح دموعي،التي لم تتجرأأن تظهرللعَلَن.
فكّرت:
ربما هذا ظلي،عائدٌ من البحر بحسرة، بعد أن لفظه.
وربماالبحر نفسه،قد اشمأزّ من جثتنا الجبانة.
مسح دموعه،وأعادإليّ المنديل.لكنني رفضت،وطلبتُ منه أن يحتفظ به.
قال:
– شكرًا.
أجبته:
– العفو.
قال:
– تقول إنني خنتُها.
سألته:
– من هي؟
قال:
– زوجتي.
قلتُ بهدوء:
– هوأيضًا يقول ذلك.
قال:
– من؟
أجبته:
– زوجي.
ضحك.ثم قهقه بأسنانه البيضاء اللامعة.
كان وسيمًا جدًا…وأنيقًا بطريقةٍ غريبة.
سألته:
– لماذا تضحك؟
قال:
– أضحك على هذاالقَدَر،الذي يصرُّعلى أن يجمع التعساء، لكنه يرفض أن يلتقي الأحبة.
قلتُ:
– هل كنتَ تحبها؟
نظر إليّ باستغراب:
– مَن؟زوجتي؟
أعوذبالله!لم أحبها يومًا،ومع ذلك، تتهمني بالخيانة.
كان صوته مضطربًا،كأنّه يختنق بغصّة:
– أرجوكِ،ياسيدتي…قولي لي:
هل يُعتبر خائنًا من لا يُحب؟
كيف يُسمّون ما فعلتُه”خيانة”وأنا لم أحبها يومًا؟
أليست الخيانة كسرًا لميثاق الحب؟
فأين هوالحب الذي خنته؟
أين؟
صُعقتُ من كلماته.
كان واضحًاكالشمس،التي كانت تودّع الأفق بلونٍ مائلٍ للحقيقة.
تلك الشمس التي نعتقد أنها تغيب،لكنها في اللحظة ذاتها تشرق على مدينةٍ أخرى.
مدينة يبدأ سكانها معارك الحب والسعادة…
نتبادل الأدوار بيننا نحن البشر،إلى أن نهلك.
ساد صمتٌ غريب.
كأن الجميع سمع كلماته ولم يُصدّق.
حتى تلك القطةالحائرةتوقّفت عن الاحتكاك بأرجل المارة.
ثم قطعتُ ذلك الصمت… بكلمة غبيّة:
– نعم… إنها خيانة.وسيُعاقبك الله عليها.
أدار وجهه إليّ، بعدما كان يُحدّق في البحر.
تأمّل نصف وجهي،ونصف رقبتي، وذراعي…
كأنّه يتأكّد:هل أنا حقًا إنسانة؟
قال بهدوء مؤلم:
– الله؟
إنه هو من استودع حبّها في داخلي،ثم نزعه بإرادته الكاملة.
أنا لم أختَرأن لاأحب.
قلتُ وأناأتنفّس وجعي:
– أعلم…أعلم أنني غبيّة.
لاأحد يستطيع منع الشعور من أن يُزاحم نبض القلب.
أنا أيضًا اختبرت ذلك.
لكن بطريقتي الخاصة.
أنت كنت شجاعًا في الدفاع عن حبّك.
أما أنا…فقد كنت شجاعةً فقط في خسارة حبي.
أنا أؤمن بالأوراق القانونية،أكثر من إيماني بالحب.
إنها تربية أمّي – رحمها الله.
علّمتنا أن نحترم القانون،وأن نخاف الله كما يخافه اللصوص،رغم أننا لسنا لصوصًا.
نحن فقط نبحث عن أرواحٍ تُشبهنا.
ولا نريد أن نسرق ما لا نملكه.
والحب…ملكُنا.أليس كذلك، يا سيدي؟
قال بصدق:
– نعم، ملكنا.
لكنّهم اعتادوا أن يحبسوا العصافير في الأقفاص.
فماذا تظنين أنهم يفعلون بنا؟
نحن الذين أصبحنا”ورقةملكيّة”،وعقدًا بين سيّد وعبد.
قلتُ وأنا أنظر إلى البحر:
– سأغادر.
الشمس توشك على أن يبتلعها البحر…
أو ربما العكس.
قال:
– انتظري… ما اسمك؟
قلتُ:
– سماح.
قال:
– على ماذا؟
ضحكتُ:
– اسمي فقط “سماح”.
قال وهو يبتسم:
– تملكين عينين تُشبهان حزني الجميل.
قلتُ:
– سأكون هناغدًا،في الموعد نفسه.
قال:
– لقد كانت محاولة فاشلة…لولا ذلك الأحمق الذي يحرس الشاطئ.
قلتُ:
– أنت شجاع في الحب… وفي الموت أيضًا.
قلتُها،والحزن يغمروجهي:
– هذا الغريب فعل شيئًا لم يفعله أحد منذ وُلدت…
كأنه يحمل مفاتيح روحي.
فكّرتُ في صمت:
هل هناك مكان لي…في أعماق البحر؟
نهض من مكانه،ووقف أمامي.
كنت على وشك المغادرة.
وضع يده على كتفي، وربّت.
قال بهمسٍ:
– هناك مكان لا يحرسه أحد…هل تودّين المجيء؟
انتفض جسدي.
اهتز كياني…هل يقرأ أفكاري؟
عانقني بقوّة، وأنا أحاول أن أرى نظرات الناس، واتهاماتهم، وأسئلتهم…
لكن…لم يكن هناك أحد.
المكان كان فارغًا تمامًا من البشر.
حتى البحر اختفى.
والشمس… اختفت هي الأخرى.
وهو…
اختفى أيضًا.
عندما أمسك بيدي، وقفزنا من فوق الجبل.

سلوى ادريسي والي
Share this content: