
كل شيء مدمج في هذا النص القصير من أحداث وشخصيات ووقائع يبقى بطريقة الكتابة الملتوية والتغبيش من نسيج مثالي وتأملات الكاتب عينه ،كما أنها لا تعدو سوى ميتا – صورة لحياة معيشية بلغة الأدب الإنساني يسعى الكاتب لإثارتها عبر هكذا قضايا اجتماعية / تنموية لساكنته الفوسفاطية في انتظار بزوغ شمس مشرقة عبر خيوطها الذهبية،إذ نستشف عبرها لهذه المدينة الثرية*المدينة الفاضلة لأرسطو* تنمية كبرى، بعجلة واحدة عكس ما تعرفه المدن الأمبراطورية للمملكة..
كانت تعيش هاهنا بالقرب منا لعقود عدة..تمشي حيثما تمشي كأميرة متكاملة الأوصاف..لباسها توحي لناظرها بمستوى رفيع لأسرتها العريقة بهذه المدينة الفوسفاطية خريبكة..ظلت تقطن بالقرب من الحديقة القديمة..على ما يبدو كتعبير ياباني عن صفة من صفات النساء مثلها تتوفر على غريزة الاحتفاظ التي تتميز بها النساء الذكيات.. لقد عاشت تاريخ الصبا والشباب وهي اليافعة في سحر جمالي قل نظيره بهذه المدينة المجهولة في منطق الجغرافية السياسية إلا ككنز من التراب الأصفر يجوب العالم بأسره..الآنسة المجهولة بمحطة خريبكة تلك شبهها الكاتب عبر التواءات في عالم الكتابة “كقطة أوروبية” قد تم حملها «حَرْݣَتْ»و بدون جواز سفر يحمل صورتها في سيارة مهاجر خريبݣي مغربي بترقيم من الديار الإيطالية *تورينو* ،بفروها الناعم و البني اللون اللطيف في ملمسه.. وعينيها الزرقاوتين المثيرتين للإنتباه من بعيد..كلما تمعنت في مظهرها المثير الذي يبقى فريدا من نوعه مقارنة مع قططنا التي استوطنت كزرافات في تحد أسطوري لكل إكراهات العيش قرب الحاويات هنا وهناك ،والقليل من أمثال هذه القطط عندنا من تعرف السكينة ونعومة الراحة في الفراش الدافئ والغذاء الجيد.. ولربما حتى المراقبة الصحية عندما تصادف من الأسر من تعشق تربية هكذا قطط ألفتها،رغم أن القطط ماكرة جدا حينما تريد أن تصل لمبتغاها عكس الكلاب التي تعرف بصدقها وحسن معاشرتها لأصحابها لذلك يقول المثل الفرنسي القديم Il vaut mieux avoir un chien ami qu’un ami chien
وكأنها قطة أوروبية وبثمنها الباهظ وفي عنقها سلسلة ذهبية نقش عليها آسمها بل لقبها الإيطالي بيللا (Bella):و تعني الجميلة …تمشي الهوينة.. تتبختر أمام باب الڤيلا الجميلة ..!
وفجأة وقع ما وقع.. فوجدت نفسها في الشارع العام.. ونحن نعرف ماذا يوجد في ذاك الشارع..! على ذكر كلام القاص المغربي أحمد بوزفور.كان لا بد لها أن تتعلم كيف تعيش حياتها الجديدة وسط الركام من عوالم جديدة بثقافة الشعب،وتصارع من أجل البقاء بعيدا عن النعيم و رطوبة رغد العيش..
- مسكينة قطتنا في رحلتها الجديدة والعبثية بطقوس غير مألوفة لديها..!
لم تجد في المدينة الفوسفاطية الظروف المناسبة كي تواصل وجودها بين فصائل من القطط الضارية،والصراعات الدموية الدائمة .لذلك فهمت نظرية الانتخاب الطبيعي لداروين عبر فكرة البقاء للأقوى..البقاء للأصلح..وحاولت الرجوع للمسكن الدافئ، لكن لا شيء من القديم بقي كما كان. .غادرت المسكن القديم بالمدينة الفوسفاطية الذي ظل يسميه صديقنا القاص المغربي الراحل إدريس الخوري،وهو «كيتشفا فينا » بطريقته الأدبية الخاصة عبر عنوان لنص قصصي يكتب نفسه بنفسه “مدينة الغبار” ويسميها الكاتب -الراوي- عينه بمدينة الانتظار إلى يوم الحشر أو حتى ينتهي الكنز المعلوم ثم ينفض الجمع من حولها.. فكرت كي تعيش كقطة البحر لدى الشاعر والأديب المغربي المهاجر هو الآخر محمد بنميلود صاحب الزوايا الحادة في قصائده في روايته الرائعة الحي الخطير ..
لذلك كان لا بد لهذه القطة الجميلة والرائعة بأن تتقمص قطة البحر بمخالبها الحادة كي تصطاد لنفسها سمكة العمر.. وتعيش في بؤبؤ الحياة السعيدة و التي تبقى مطلبها الجميل..و على شط من أمواج ذكريات متلاطمة عن تلك المدينة الفوسفاطية المهمشة والتي تحملها بين طيات ذكرياتها من الطفولة الماضية..!!
لكن قطتنا الجميلة ما استطاعت لذلك سبيلا فتغير حالها وشاخت قبل الأوان.. ولم يبق من جمالها إلا ملامحه..”إلى مشى الزين كيبقاو حروفو” كما يقول المثل المغربي ..وكما أن مدينة الفوسفاط ظلت ذكرى من ذكريات حياتها الماضية وكلما حلت بها في مناسبة عابرة. وجدتها مدينة محكوم عليها بأن تبقى من مدن المنجم ..من مدن العمال. ..بتنمية لا تعدو أن لا تتجاوز أشكالا من النافورات وملاعب القرب ومحطة طرقية لا يتم إنجازها إلا عندما يعود توأم أينشتاين من رحلته للمريخ…

تدوينة للشاعرة ليلى كو على النص القصير مشكورة
في حضرة كلماتك، تألقت مدينة خريبكة كما الجوهرة التي تُخبئ بين ترابها أسرار الزمن ووجع الأمل. لقد نسجتَ لنا لوحة شعرية حيّة، تُشبه فيها “القطة الأوروبية” التي تمشي بخُطى واثقة في عالم قاسٍ، ترسمُ لنا صراع البقاء بين نعومة الماضي وقسوة الحاضر، بين دفء الذكرى وبرودة الواقع.
حملت الحروف بين ثناياها عبق الطفولة المنسية، وصدى الحكايات التي تئنُّ تحت وطأة غبار الانتظار، وانتفاخ الجراح في عيون مدينتك الفوسفاطية، التي تحلم بشمسٍ تشرق من جديد، لا تُطفئها إلاهات اليأس.
قصتك ليست مجرد سرد، بل هي مرآة إنسانية تلمس الوجدان، وترسم بمخالبها الحادة صورة الإنسان الذي يصدح بالحياة رغم مرارة الألم، وتظلّ ذاكرتك نابضة بأنغام الحنين التي لا تغيب.
تلك “القطّة الجميلة” التي عرفت الصراع والتغيير، تمثل روح المدينة وأهلها؛ تئنّ لكنها لا تستسلم، تشكو لكنها تصمد، وتظلّ رمزية الجمال المختبئ خلف خيوط التراب الأصفر، تشهد على أن الحلم وإن شاخت ملامحه، لا يموت.
أنت تكتب الشعر بعين الروح، وبقلب يحسّ بنبض المدينة وأهلها، وتزرع في نصوصك بذور الأمل رغم كل العواصف.
هذا النصّ لوحةٌ لا تُنسى، تنبض بالحياة وتدعونا لنقف مع المدينة، نقرأها، نسمعها، ونحلم معها بغدٍ أفضل
في عيونِ الترابِ يَنبُضُ أملٌ خفيّ
يُزهرُ رغمَ الغُبارِ، ويَسري بلا مَنى
Share this content: