
اللص وعبد الغفور…
قصة قصيرة.
في لحظة من اللحظات، أخذ كاتبنا ورقة بيضاء وقلما أسود اللون.وتاه يفكر بخياله عن شئ ما يستحق أن يخط عنه أفكاره، ليسترجع أحداثا ووقائع قد دفنها التاريخ ولن تعود صالحة لهذا الزمان الجديد الذي أصبح فيه الإنسان الرقمي آلة من الآلات،وهو يتحرك في عالم كله أرقام.. رقم بطائقه المتعددة،رقم هواتفه،رقم سيارته، رقم سكناه..وهلم جرا .فرجع بذاكرته للماضي البعيد لتساعده على استحضار شئ ما، أو حدث يستحق النبش فيه.المهم حاول جاهدا أن يقلب صفحات الماضي لعله يهتدي إلى ما يبحث عنه، وتذكر بعد أمة قصة مشوقة أراد أن يجعلها تحيا من جديد، ويتعرف على أحداثها وشخصياتها وما ترمز له من المعاني وما تبلغه للقارئ من عبر ودروس يستفيد منها في حياته الواقعية بطريقة ما..
استيقظ صاحبنا عبد الغفور باكرا، و هذه من عادته في كل يوم أحد، والذي يصادف السوق الأسبوعي بمدينة خريبكة .وحتى يبقى له الوقت الكافي ليتنقل بين جميع أمكنته، ويشتري له كل شئ يستحق أن يدفع في مقابله مالا.. فكان الوقت صيفا، ولم يكن يرتدي سوى ( فوقيته ) الحريريةالناصعة البياض،والتي له علاقة حميمية بها.فقد أهداها له والده المرحوم الحاج اسماعيل،لما زار الديار المقدسة مع والدته الحاجة مريم.والتي عادة ما كانت تدعو له بدعاء لا تغيره إلا لماما “الله يسترك، من أولاد الحرام”ربما صاحبنا لا يعطي أي اعتبار يذكر لدعائها المتكرر ذاك، بل يظنه سوى مقابل بعض الخدمات القليلة التي كان يقدمها لها ولوالده تدخل في أبواب الإحسان بهما، وكان بارا بهما قدر المستطاع، ما دام صاحبنا سوى موظف بسيط بقطاع التعليم العمومي، وراتبه على قد الحال..وكان مستقلا عنهما، حيث تزوج منذ مدة.. وهو الآن يستأجر مسكنا خاصا بالخوادرية القدام.فكان من عادة عبد الغفور نهار الأحد، أن يتناول فطوره بمقهى الملكي بساحة المجاهدين مع بعض أصدقائه في العمل، ويطلعون على الجرائد اليومية، ويشرب قهوته التي تعود على طلبها من النادل صديقه، فما أن يجلس في مكانه حتى تكون قهوته جاهزة، وبالقرب منها بعض الصحف المشهورة..شرب عبد الغفور قهوته بنشوة وسد رمقه بقطعة من “بتي باهpetit pain” وبعدها أشعل سيجارته المفضلة” كازا سبور” من نوع التبغ الردئ طبعا، والتي كان يفرق حتى في أنواعها وأصنافها، فهو يفضل تدخين الصنف القديم، ولا يعرف السر إلا عبد الغفور عينه..و يا ما جلس في هذه المقهى لتهيئة امتحانات عديدة، وهو موظف بقطاع التعليم العمومي ، حيث كان يتابع دراسته بكلية بوشعيب الدكالي بالجديدة، في شعبة الدراسات الإسلامية، و التي ستؤهله مستقبلا للحصول على الإدارة التربوية حتى حصل على تقاعده..
أتم عبد الغفور فطوره بهدوء ثم دفع ثمن القهوة بدراهم معدودة بالكاد أخرجها للنادل بعدما جمعها من أكثر من جيب. لأنه لما أراد الخروج ترك لأولاده مصروف الحمام لزوجته وبناته وثمن الكومير.لأن أبناءه تعودوا الفطور به من زمان..ودع أصدقاءه في ذاك الصباح المشمس الحار، وحمل قفته في يده، وقد أثناها أكثر من مرة، ووضع قطعة نقدية من فئة مائتي درهم في الجيب الأمامي لفقيته البيضاء ثم شرع في طي المسافة الطويلة إلى السوق الأسبوعي على قدميه حتى يقتصد في مصروفه، فلا حاجة له بالطاكسي ما دامت نقوده على قد الحال.فالطاكسي لا يدخل في أجندته البثة.. وصل إلى سوق الأحد على الساعة العاشرة صباحا، وكان السوق ممتلئ بالرواد من جميع نواحي مدينة خريبكة..عبد الغفور من عادته أن يبدأ من رحبة البالي لعله يصادف بعض الملابس المستوردة من إيطاليا، و بأثمنة بخسة، وبعدها يقوم بطواف عام عن كل جنبات السوق، لعل بصره يقع على سلعة ما قد يحتاج لها في البيت.. وكان عبد الغفور عادة ما يصادف في بعض الأماكن زحاما وتدافعا وكان يوجد وسط هذه الأمواج البشرية، وينتظر الفرصة ليتنفس الصعداء حتى يخرج و ينفلت منها ليبحث له عن ممر يخف فيه التزاحم والتدافع..مرت ساعات طويلة على عبد الغفور ولم يرقه أي شئ يشتريه.لكنه ظل يستطلع السلع والأثمنة دون أن يشتري شئ يذكر،والآن بعدما شعر بالتعب والإرهاق لكثرة المشي، و سخونة الجو،فقدحان الوقت لملء قفته بما يحتاجه من خضرولحم، دون أن ينسى”طايب بوهاري”والذي يشتريه من الباعة الذين يضعونه في”الزكاوي”و الذي يعجب عبد الغفور و أبناؤه كثيرا، لأنه تعود على أكله وشرائه منذ الصغر، وكان أبوه الحاج اسماعيل يأتي لهم به وهم أطفال صغار كلما ذهب إلى السوق وكان يسمونها”التسيويقة”اقترب عبد الغفور من رحبة الخضر، وسأل عن ثمن البصل والبطاطس ثم طلب من الخضار أن يزن له بعدما عزل ما يمكن عزله، لكن الفاجعة كانت لما أدخل يده في جيبه الصغير ناحية قلبه، لإخراج المائتي درهم لدفع الثمن، وجدها قد طارت، فكاد أن يسقط أرضا، وازدادت دقات قلبه..نظر الخضار إلى وجه، وقد تغير لونه، بدأ يهدئ من روعه،لأن الخضار عرف بأن صاحبنا لم يجد بما يسدد به ثمن البصل والطماطم، ومن خلال حركاته أيضا..أفرغ عبد الغفور القفة، رغم أن الخضار تألم لحاله، مخاطبا إياه : لاعليك لا تفعل..اترك القفة لحالها ،واذهب حتى تأتيني بنقودي في الأسبوع القادم إن شاء الله ،لكن عبد الغفور أفرغها وطلب من الخضار أن يسامحه..أثنى قفته الخاوية مرة أخرى، وكله ألم وحزن، و هو يقول في نفسه
- ماذا أقول لزوجتي؟ سرقت..ضاعت مني مائتي درهم…انفلتت من جيبي الورقة الزرقاء..وبماذا سأواجه أطفالي الصغار لما يلقون في الباب؟
- بابا جتي لينا طايب بوهاري ؟
- آه؛ يا و يلي عبد الغفور مسكين ،ماعرفت مالو راجع بالقفة خاويا..
لم يتمالك عبد الغفورنفسه،وقد شبك يديه وراء ظهره ،وهو يمشي متثاقلا قافلا إلى بيته..رفع عينيه إلى السماء يشكو حاله لخالقه.وهو المؤمن بربه حق الإيمان، فناجاه قائلا: – ربي أنت تعلم أنني ماسبق لي أن سرقت أحدا ، فلماذا يسرقونني؟وهويدعو،رمقه شخص تظاهر بأنه يعرفه فسلم عليه.
–كيف حالك يا أسي محمد ؟ لعلي لا أعرف أين رأيتك ؟ ولم أحدد أيضا المكان الذي شاهدتك فيه؟ أين وأين وأين؟ لم أتذكر..وكلها حيل ليتعرف عليه و على اسمه..ذكرني باسمك ؟ عبد الغفور..نعم هو أنت بالتأكيد السي عبد الغفور..و ما لي أراك راجع بقفتك خاوية؟
- قفتي خاوية..نعم،إنها حقا خاوية كما ترى..!
- فقد سرقوني أولاد لحرام ..
- مسكين ،وماذا ستفعل الآن؟
- هذا هو الذي وجدتني أفكر فيه الآن.
- وكيف سأعود عند أولادي بهذه الحالة ؟
- لا عليك ،اتبعني .نعم ،اتبعني واسكت..
- لم يفهم عبد الغفور أي شئ ، لكنه تبعه،لأنه لن يخسر أي شئ آخر..بعدما خسر الورقة الزرقاء الوحيدة في جيبه.
- لم يتوقف هذا الرجل الغريب حتى وهو في رحبة الخضر ،فملأ له القفة عن آخرها ثم مر على رحبة الجزارة واقتنى له كيلوين من اللحم.
- ولما انتهى،سأل عبد الغفور،هل نفسك في شئ كنت تريد أن تشتريه ؟
- قال له : نعم “طايب بوهاري” لصغار.
وما كان على الرجل الغريب إلا أن اشترى له ما يريد..وبعده ساعده على حمل قفته حتى أوصله إلى مكان العربات (لكوارو) ثم ودعه دون أن ينبس ببنت شفه وانسحب بسرعة وشجاعة وشهامة..
لكن عبد الغفور ظل حائرا في أمر هذا الشخص الذي ظهر له فجأة..هل هو من الجن أم الإنس؟فطلب من صاحب العربة بالحرص على قفته حتى يعود.وتبع هذا الرجل الغريب الذي جاء فجأة ليساعده في وقت العسرة..فظل وراءه كظله، ومشى خلفه و هو يراقبه خطوة بخطوة عن بعد، لعله يجد جوابا لحيرته.خرج الرجل الغريب خارج السوق، و جلس وقد طأطأ رأسه، اقترب منه عبد الغفور يتسلل نحوه ،حتى طبطب على كتفيه ،فإذا هو يبكي بكاء الطفل الصغير، فازدادت حيرة صاحبنا عبد الغفور.فتكلم معه و الله إن أمرك لغريب جدا..
- لا عليك، أخي سأحكي لك الآن كل شئ بالتفصيل..فحكى له حتى شعر بالصدمةمرة أخرى
أنا من اللصوص المحترفين في هذا السوق.و اليوم سرقت فجمعت ما جمعت.وأنا خارج من السوق صادفتك ،وعرفتك جيدا، فأنا الذي سرقت لك المائتي درهم من جيب الفوقية..وكانت تظهر زرقاء من الجيب..فتألمت لحالك ،وعملت معك كل ذلك..وبعدها جئت لوحدي قرب هذا الحائط لأبكي على خالقي كي يتوب علي من السرقة..فرد عليه قائلا: وقد سبقتك أنا أيضا ،فبكيت على ربي كي يرجع لي مظلمتي ،وها هو قد هداك إلي .وقلب قلبك ليثوب..وهو القائل سبحانه وتعالى: ﴿ ۞ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾[ الزمر: 53]

Share this content: