
قد يبدو العالم فوضويا، متسارعا، مزدحما بالأحداث التي لا تمنحك فرصة لالتقاط أنفاسك. لكن وسط هذا الزحام، هناك معنى خفيّ ينتظر أن تكتشفه. ليس في المحطات الكبرى وحدها يُبنى الفهم، بل في التفاصيل الصغيرة التي قد تمر بها دون أن تلقي لها بالا. المعنى يسكن في لحظة سكونك أمام شروق الشمس أو غروبها، في ابتسامة طفل لا يعرف التعقيد، في صوت المطر على نافذتك وأنت تغرق في أفكارك. قد يكون في كلمة عابرة، أو في لقاء لم تكن تتوقعه، أو في لحظة إدراك مباغتة تغير نظرتك إلى الأشياء.
وفي جلسة قهوة فردية وسط مقهى يغصّ بالذكريات والغائبين، قد تجد المعنى يطلّ عليك من بخار الفنجان المتصاعد. تجلس هناك، محاطا بأحاديث متقطعة، بضجيج غير مرئيّ لأرواح مرت من هنا وتركَت جزءًا منها بين المقاعد. في ذلك الصمت المليء بالصخب، تدرك أن الحياة تمضي، لكن التأملات تظلّ هنا، تشاركك جلستك، تُعيد تشكيل ملامحك، وتمنحك إحساسا عميقا بأنك جزء من شيء أكبر، وأن المعنى قد يكون ببساطة في قدرتك على التذكر، والتأمل، والمضيّ قدما.
والمعنى قد يظهر لك أيضا وسط صالة كمال الأجسام، في اللحظة التي تواجه فيها الوزن العنيد الذي يرفض أن يرتفع. هناك، في العرق المتساقط، في التنهيدة الأخيرة قبل أن تدفع بثقلك نحو الأعلى، في الارتعاشة التي تسبق الإنجاز، تجد نفسك أمام معركة صامتة بينك وبين حدودك. تتحدى نفسك، تدرك أن القوة ليست مجرد عضلات، بل إرادة لا تستسلم. في تلك الثواني القليلة، حين تكسر الحاجز الذي كان يبدو مستحيلا، تتعلم درسا عميقا: أنك أقوى مما كنت تعتقد، وأن المعنى في الحياة قد يكون ببساطة في هذه اللحظات الصغيرة التي تثبت لك أنك قادر على تجاوز ما كان يثقلك.
وقد تجد المعنى في الكلمات التي تصوغها حين تتناول قضية سياسية معقدة، أو حين تحلل رقعة جيوسياسية تتشابك فيها المصالح والحدود والأيديولوجيات. في لحظات التمحيص، وأنت تنقب بين السطور، تحاول أن تفهم ديناميات القوة، وتعيد رسم صورة الحدث بعيدا عن الدعاية والانحياز، هناك يكمن المعنى. إنه يسكن في قدرتك على فك شيفرة الواقع، على تجاوز السطح إلى العمق، على استيعاب التعقيد دون أن تغرق في الفوضى. المعنى هو أن تدرك أن كل صراع، كل تحالف، كل قرار، هو انعكاس لطبقات من التاريخ، للنفوذ، وللنظرة إلى العالم. وحين تصل إلى استنتاج جديد، غير متوقع، غير مكرر، تشعر بأنك لم تكتب مجرد تحليل، بل أضفت تفصيلة لنفسك في محاولتك لفهم العالم.
أما معنى عدنان، فهو في تقاطع كل هذه التفاصيل. هو في الكلمة المكتوبة بحذر بين السطور، في الصوت الصامت وسط ضجيج المقهى، في الثقل الذي يُرفع في صالة التمارين، في التحليل العميق لقضية شائكة، في تلك اللحظات التي تتشكل فيها الأفكار كما يتشكل الجسد. إذ لا تكون مجرد فرد يمر في الحياة، بل شخصا يحاول أن يفهمها، أن يعيد تشكيلها، أن يترك أثرا، ولو كان مجرد كلمة، مجرد فكرة، مجرد بصمة في عقل قارئ لم يلتقِك لكنه شعر بك.
أنا لا أملك سوى نفسي وكتاباتي. العالم يتغير، الأصدقاء يأتون ويرحلون، الأيام تمضي وتأخذ معها الكثير، لكنني أبقى هنا، مع ذاتي وكلماتي التي تخرج مني كجزء مني. وحينما أكتب لك نصا، فأنا لا أهديك مجرد حروف، بل أهديك جزءًا من نفسي، من روحي، من أفكاري التي اختزلتها في كلمات. لأن الكتابة ليست مجرد فعل، إنها امتداد لذاتي، نافذة أطل بها على العالم، أو مرآة أرى فيها نفسي بوضوح. فإن كنت أكتب لك، فأنا أمنحك شيئًا مني. فاقبله كهدية تحمل نبض اللحظة، وشيئًا من ذلك الأثر الذي يبقى حتى بعد أن يرحل كل شيء، ذلك الأثر الذي أحاول صنعه.
Share this content: