المكان مجهول والزمان معلوم.إنها رحلة البحث عن المعنى في تفاصيل الحياة.. عدنان هريوى – الرباط اليوم – المغرب

قد يبدو العالم فوضويا، متسارعا، مزدحما بالأحداث التي لا تمنحك فرصة لالتقاط أنفاسك. لكن وسط هذا الزحام، هناك معنى خفيّ ينتظر أن تكتشفه. ليس في المحطات الكبرى وحدها يُبنى الفهم، بل في التفاصيل الصغيرة التي قد تمر بها دون أن تلقي لها بالا. المعنى يسكن في لحظة سكونك أمام شروق الشمس أو غروبها، في ابتسامة طفل لا يعرف التعقيد، في صوت المطر على نافذتك وأنت تغرق في أفكارك. قد يكون في كلمة عابرة، أو في لقاء لم تكن تتوقعه، أو في لحظة إدراك مباغتة تغير نظرتك إلى الأشياء.

وفي جلسة قهوة فردية وسط مقهى يغصّ بالذكريات والغائبين، قد تجد المعنى يطلّ عليك من بخار الفنجان المتصاعد. تجلس هناك، محاطا بأحاديث متقطعة، بضجيج غير مرئيّ لأرواح مرت من هنا وتركَت جزءًا منها بين المقاعد. في ذلك الصمت المليء بالصخب، تدرك أن الحياة تمضي، لكن التأملات تظلّ هنا، تشاركك جلستك، تُعيد تشكيل ملامحك، وتمنحك إحساسا عميقا بأنك جزء من شيء أكبر، وأن المعنى قد يكون ببساطة في قدرتك على التذكر، والتأمل، والمضيّ قدما.

والمعنى قد يظهر لك أيضا وسط صالة كمال الأجسام، في اللحظة التي تواجه فيها الوزن العنيد الذي يرفض أن يرتفع. هناك، في العرق المتساقط، في التنهيدة الأخيرة قبل أن تدفع بثقلك نحو الأعلى، في الارتعاشة التي تسبق الإنجاز، تجد نفسك أمام معركة صامتة بينك وبين حدودك. تتحدى نفسك، تدرك أن القوة ليست مجرد عضلات، بل إرادة لا تستسلم. في تلك الثواني القليلة، حين تكسر الحاجز الذي كان يبدو مستحيلا، تتعلم درسا عميقا: أنك أقوى مما كنت تعتقد، وأن المعنى في الحياة قد يكون ببساطة في هذه اللحظات الصغيرة التي تثبت لك أنك قادر على تجاوز ما كان يثقلك.

وقد تجد المعنى في الكلمات التي تصوغها حين تتناول قضية سياسية معقدة، أو حين تحلل رقعة جيوسياسية تتشابك فيها المصالح والحدود والأيديولوجيات. في لحظات التمحيص، وأنت تنقب بين السطور، تحاول أن تفهم ديناميات القوة، وتعيد رسم صورة الحدث بعيدا عن الدعاية والانحياز، هناك يكمن المعنى. إنه يسكن في قدرتك على فك شيفرة الواقع، على تجاوز السطح إلى العمق، على استيعاب التعقيد دون أن تغرق في الفوضى. المعنى هو أن تدرك أن كل صراع، كل تحالف، كل قرار، هو انعكاس لطبقات من التاريخ، للنفوذ، وللنظرة إلى العالم. وحين تصل إلى استنتاج جديد، غير متوقع، غير مكرر، تشعر بأنك لم تكتب مجرد تحليل، بل أضفت تفصيلة لنفسك في محاولتك لفهم العالم.

أما معنى عدنان، فهو في تقاطع كل هذه التفاصيل. هو في الكلمة المكتوبة بحذر بين السطور، في الصوت الصامت وسط ضجيج المقهى، في الثقل الذي يُرفع في صالة التمارين، في التحليل العميق لقضية شائكة، في تلك اللحظات التي تتشكل فيها الأفكار كما يتشكل الجسد. إذ لا تكون مجرد فرد يمر في الحياة، بل شخصا يحاول أن يفهمها، أن يعيد تشكيلها، أن يترك أثرا، ولو كان مجرد كلمة، مجرد فكرة، مجرد بصمة في عقل قارئ لم يلتقِك لكنه شعر بك.

أنا لا أملك سوى نفسي وكتاباتي. العالم يتغير، الأصدقاء يأتون ويرحلون، الأيام تمضي وتأخذ معها الكثير، لكنني أبقى هنا، مع ذاتي وكلماتي التي تخرج مني كجزء مني. وحينما أكتب لك نصا، فأنا لا أهديك مجرد حروف، بل أهديك جزءًا من نفسي، من روحي، من أفكاري التي اختزلتها في كلمات. لأن الكتابة ليست مجرد فعل، إنها امتداد لذاتي، نافذة أطل بها على العالم، أو مرآة أرى فيها نفسي بوضوح. فإن كنت أكتب لك، فأنا أمنحك شيئًا مني. فاقبله كهدية تحمل نبض اللحظة، وشيئًا من ذلك الأثر الذي يبقى حتى بعد أن يرحل كل شيء، ذلك الأثر الذي أحاول صنعه.

Share this content:

  • Related Posts

    جواز سفري لأمصار شتى هو كتاب قرأته..عبد الرحيم هريوى -خريبكة اليوم – المغرب

    ليس كل من يملك جواز سفره الأخضر يستطيع أن يسافر خارج تراب الوطن في ظل ظروف عيش غالية..!!أنا اليوم قد هرمت  فلا أملك جواز سفر ولا قدرة لدي على مغادرة هذا الوطن ..ولن أستطيع لذلك سبيلا حتى وإن حضرت الرغبة لدي.. وعن رواية 1Q84 اليابانية للروائي العالمي هاروكي موراكامي ندون ما يلي فماذا قيل عن السفر عبر قراءة الكتب..؟ وأما أنا…

    Read more

    لقد انتهى زمن الإكليروس الثقافي والأدبي المغربي.كما سماه الشاعر المغربي محمد بنميلود صاحب النص الرائع الحي الخطير .عبد الرحيم هريوى – خريبكة اليوم – المغرب

    الإكليروس الثقافي والأدبي المغربي انتهى أجله ببزوغ قمر الثورة الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي وأمسى من له حساب رقمي مشروع كاتب وأديب وصحافي بدون رسميات وتأشيرات..   لقد ولى زمن الإكليروس الثقافي والأدبي في زمانه الرسمي.اليوم نحن نعيش في عالم الفوضى الخلاقة عبر الشبكة العنكبوتية العالمية والثورة الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي. فلا أحد يمكن له أن يُنَصِّبَ نفسه رئيس تحرير جديد على رواد…

    Read more

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    You Missed

    “بين غواية الحرف وصرخة الذات “يكتب القارئ المتميز والشاعر المغربي عبد العزيز برعود عن التجربة الشعرية للأديبة المغربية نعيمة معاوية -خريبكة اليوم – المغرب

    “بين غواية الحرف وصرخة الذات “يكتب القارئ المتميز والشاعر المغربي عبد العزيز برعود عن التجربة الشعرية للأديبة المغربية نعيمة معاوية -خريبكة اليوم – المغرب

    لا فرق لنا اليوم بين فريق” الكونغو أوالطوغو أو جزر القمر “فكلهم قد اتفقوا عنوة على إفساد أي عرس كروي ضد منتخبنا وهم  يركنون للدفاع..عبد الرحيم هريوى – خريبكة اليوم – المغرب

    لا فرق لنا اليوم بين فريق” الكونغو أوالطوغو أو جزر القمر “فكلهم قد اتفقوا عنوة على إفساد أي عرس كروي ضد منتخبنا وهم  يركنون للدفاع..عبد الرحيم هريوى – خريبكة اليوم – المغرب

    أين يكمن الوعي لدى القاصة المغربية سلوى ادريسي والي..؟؟ خريبكة اليوم – المغرب

    أين يكمن الوعي لدى القاصة المغربية سلوى ادريسي والي..؟؟ خريبكة اليوم – المغرب

    لا يمكن لأي قارئ أن يمتلك نفسا طويلا في قراءة النصوص الروائية الطويلة والمؤسسة للفكر الإنساني في مجال الأدب..عبد الرحيم هريوى – خريبكة – المغرب

    لا يمكن لأي قارئ أن يمتلك نفسا طويلا في قراءة النصوص الروائية الطويلة والمؤسسة للفكر الإنساني في مجال الأدب..عبد الرحيم هريوى – خريبكة – المغرب

      اليوم ؛ جملة مما دونته على حائطي الفيسبوكي.عبد الرحيم هريوى – خريبكة اليوم – المغرب

      اليوم ؛ جملة مما دونته على حائطي الفيسبوكي.عبد الرحيم هريوى – خريبكة اليوم – المغرب

    جواز سفري لأمصار شتى هو كتاب قرأته..عبد الرحيم هريوى -خريبكة اليوم – المغرب

    جواز سفري لأمصار شتى هو كتاب قرأته..عبد الرحيم هريوى -خريبكة اليوم – المغرب