
*قصة قصيرة- عبد الرحيم هريوى

عاشت أمها المسكينة ،الفقيرة ،اليتيمة ، في زمن الجهل و القهر والتسلط..إنه قهر لٱمرأة استمر عبر الزمان، ورغم استغلال صورتها في الدعاية والترويج للصورة المثالية لها عبر الأنام، والتي أمست نعيشها في عالم خيال الرجال..المرأة كائن بشري، متواجدة في صراعها اليومي بين عوالم شتى :
المطبخ.. الأولاد ..الأسرة ..العائلة ..إذا أضيف إليها عالم الشغل،فها هنا نقول :
– لقد أمست تعيش معلقة بين السماء والأرض..!
– إنها المرأة؛ تلك الصورة التي نحملها في مخيالنا الجماعي، صورة مركبة بشكل من الأشكال، يتداخل فيها الثقافي بالعقائدي بالروحي بالمجتمعي، إنها أمي وأمك..أختي وأختك..زوجتي وزوجتك..حماتي وحماتك..ابنتي وٱبنتك..!
– الأم؛ تلكم الشجرة الوارفة أغصانها، تعطي الثمار بدون أدنى مقابل..!
– الأم؛ ذاك النهر العذب ماؤه، والذي يسقي البساتين والحقول،يجري جريانه ،ولايشعر بتعب ولا نصب.. !
– المرأة جَمْعَه؛ ذاك الاسم القديم، الذي ٱندثر أو على الأقل هو في طريقه نحو الانقراض..عاشت جمعة يتيمة الأبوين منذ الصغر..صارعت كي تبقى حية ترزق على وجه الأرض..تزوجت وهي مازالت طفلة صغيرة، تحتاج عينها للرعاية.. وأية رعاية تنتظرها جمعة ، وهي التي عاشت على الهامش..!
– فلا من يمسح دمعتها..!؟
– ولا من يحمل هم نهارها وليلها..!؟
– ولا من يطعمها إذا ما جاعت..!؟
– ولا من يسقيها إذا ما عطشت..!؟
وجدت نفسهازوجة بالاسم، كبرت قبل نضجها..أمست تنجب كأي مخلوق آخر، وتكبِّر الأولاد ..لا تشكي..لا تبكي حالها، ولا لأي حال من حولها، وَلِحَظِّهَا العاثر لم تنجب للسيد الحاج الضاوي سوى البنات، فصار يستغلها أي ٱستغلال، لاإنساني.قد يكون فوق طاقة المسكينة..يحمل فوق ظهرها ما لا تستطيع حمله..كانت راضية بقدرها..تعيش في خدمة ضَرَّةٍ جديدة التي جاءت كي تنجب ما لم تنجبه جَمْعَه، الولد الذي يقال أنه في زمن الجاهلية في حياة أمة العربان بالجزيرة العربية، كانت القبيلة تقيم الأعراس والغناء.. حينما يزداد غلام ، أو فرس تنتج، أو نبغ فيهم شاعر ، يكون لسان حال قبيلتهم..!
وها هنا يقول ابن رشيق :
(( لقد كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها ،وصنعت الأطعمة، واجتمعت النساء يلعبن بالمزاهر،كما يصنعن في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان، لأنه حماية لأعراضهم ،وذب عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم ، وإشادة بذكرهم، وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد ،أو شاعر ينبغ فيهم ،أو فرس تنتج ) **
ظلت جمعة المسكينة خدومة..شبه عبدة في بيت الحاج الضاوي..لا منزلة لها بين النساء..ولا كلمة تسمع لها حتى وإن هي نطقت أو أنطقتها الأيام للحمل الكبير الذي تحمله فوق رأسها..!واستمرت رحلة العذاب..جمعة في خدمة جميع النساء الأخريات ،بما فيهن الكَنَّات، وسي السيد الحاج الضاوي وبناتها..كان لا بد أن يأتي يومها الذي ستسقط فيه كشجرة منخورة من جوفها..هدتها الأيام ..لكن الأقدار كانت كما شاء الرحمان..بناتها تزوجن، وأنجبن الصبيان.. أما الحاج الضاوي فقد رحل بدون سابق إنظار، بموت مفاجئ ..أما جمعة المسكينة فقد ظلت بعده كعصفورة وحيدة ..حائرة لفراقه، وهي تبحث لها عن دفء بين شقوق الجدران الصماء..فلم تجد لها مكانا ولا طعم الحنان..!
وفي صبيحة يوم من الأيام، قدمت عندها ٱبنتها الكبرى” لَنْدَا “وحملتها ومتاعها القليل على دابة إلى بيتها كي تعتني بها، و تخرجها من ضيق ذاك الجحيم، ” لَنْدَا” البنت الكبرى دائما تكون في صورة أمها، إن لم نقل أكثر من ذلك، وهي التي تعرف كل شئ عن حياة بؤس كانت أمها تتذوق مرارة كؤوسه مع مر الزمان الطويل ..الطويل جدا..!
أكرمتها أي إكرام في بيتها..أطعمتها..سقتها..ألبستها الثوب الجديد..اهتمت بنظافتها أي اهتمام ..رعتها رعاية البنت البارة لأمها..تلك هي الصورة الروحية للمرأة” جمعه” التي آمنت إيمانا قويا بربها..وبقدرها..وحافظت على فرائضها ..وعادة ما تخرج كي تجلس جنب الحائط، وفي يدها سبحتها ، تذكر خالقها وتعظم جلاله..ومرت سوى شهور قليلة..وجاء القدر المحتوم الذي إذا ما نزل من السماء، فلا مرد له..وهم الذين لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون..!
“جمعه” نامت كعادتها في غرفة بجانب الباب الكبير للمنزل، وليس من عادتها أن تنادي على ٱبنتها في وقت من أوقات أواخر الليل…سمعت لَنْدَا صوت أمها، وظنت في أول الأمر، بأنه سوى حلم اختلط بتخيلاتها..أرخت السمع مرة أخرى..فأعيد النداء..مرات ومرات ..ثم أسرعت الخطى نحو الغرفة كي تتفقد أحوال أمها..وجدتها الآن تحتضر..ساعدتها كي تنطق بالشهادتين،وهي راضية عنها..فاضت روح جمعه..صعدت للسماء قبيل آذان صلاة الفجر بساعات..قامت لَنْدَا وغطَّت جسمها..!
– لم تقدر على أن تتركها حية تتعذب بعيدة عنها..!؟
– فكيف تتركها جثة هامدة وهي بين أحضانها..!؟
قررت أن تنام بالقرب منها حتى الصباح.. وكذلك كان..نامت بالقرب منها، وأخذتها غفوة ليست بالقصيرة، فرأت ما رأته في منامها، رأت الملائكة وقد نزلت كي تقبض روحها للسماء، وهي تسمع حديثهم عنها، وعن أخلاقها وإيمانها وصبرها، ويتمها..وكيف عاشت المسكينة راضية مرضية ، فسمعت كلام الله يتلى في غرفتها وهي ما زالت في غفوتها..!!
((إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ،نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ )) صدق الله العظيم
**الأدب والغرابة//ع.الفتاح كيليطو
Share this content: