
كان لا بد له بأن يدخل للعالم الأزرق مدججا بكل أنواع الأسلحة الثقافية والإبداعية الثقيلة ، كي يبصم على حضوره المتميز بين جيوش العالم الأزرق بفيالقه الخاصة والمدربة.والتي احترفت كيف تواجه كل الهجمات وتصدها بدون خسائر تذكر، وذلك لنجاعة الأسلحة الرادعة التي في حوزتها والتي تمتلكها في الرد المباشر عن كل قصف عشوائي مباشر أو غير مباشر..
سعد ؛ الذي عرف منذ زمان قديم العالم الأزرق الممتد، وظل يبحر بين أمواجه العاتية، وصار مُصَنَّفاً من بين أفراد الكوكبة التي تسبح بمهارة، ولا تمل برودة مائه، وتقلباته المفاجئة،والتي تبقى على ٱرتباط وثيق بالأوضاع المؤثرة فيه.وما يعيشه المجتمع من اضطرابات وقلاقل واحتجاجات ومظاهرات وهزات واصطدامات ورجات.ولا سبيل أمسى للتعبير الحر والصادق عن تلك الطلبات والعرائض المجتمعية إلا عبر هذا المحيط الأزرق الممتد عبر العالم الرقمي الذي يعطينا الصورة الشاملة عن ما يجري حولنا في العالم بأسره..
صديقنا سعد هذا، يعتبر من قدماء ونشطاء العالم الأزرق، وله أصدقاء قدماء وجدد.كما له أقدمية لأكثر من عقد من الزمان في الإبحار في أعماق هذا البحر المتقلب.ويكون قد اكتسب من المهارات والخبرة في السباحة والغوص، مما يؤهله لاستخراج من كنوزه، ما يزخر به من ثروة لا يعرف قيمتها إلا أمثال سعد.. نعم ؛أمثال هؤلاء الذين ألفوا العيش في أجوائه طيلة فصول السنة ..
لكن رغم ذلك ظل سعد غير راضٍ عن حاله، وهو من قدماء هذا البحر الأزرق، فلم يصل إلى ما كان يتمناه من الشهرة والتواجد بين ساكنته و زواره بالليل والنهار..لذلك ظل يغير من أسلوب تواجده بين أصدقائه كي يعطي لنفسه تلك الصورة المشبعة بنوع من التميز الذي يبقى ضاغطا على نفسيته..
-غير البروفايل كم مرة..قام بنشر صور من ألبومه القديم..صور مدينته..صورة لسيارته.لكلبه..لقطته..لأزهار وبساتين وأشجار ونباتات وهلم جرا..
لقد جرب المسكين، كل الصور، وفي الأخير لجأ لما يلجأ إليه بعض الفنانين التشكيليين المتشائمين بمصاحبة اللون الأسود في البروفايل الخاص به،ودون قولة مشهورة لأحد الفلاسفة الوجوديين، لعله جون بول سارتر:L’enfer C’est Les autres جهنم هم الآخرون..!
-لاندري ماهي الرسالة التي كان يريد توجيهها للزوار،وخاصة أولئك الذين يضايقون تواجده بينهم، ولا يعطونه ذاك الزخم والاهتمام الذي ما فتئ يطلبه لنفسه..
-ظل على تلك الحالة المسكين، وهو يطارد المجد والشهرة عبر العالم الأزرق..جرب جميع الخطط..كل شئ جديد يتم رميه عبر صفحاته.. تعليقات ..كتابات .. تعابير قد لا تخلو من إحساس و رغبات دفينة، قد لا يكتشفها إلا من له دراية بدراسات سلوكيات بني بشر، وتقلبات أحوالهم ومطاردة الساحرات..
ومؤخرا بدأ في نشر صور كثيرة : شواهد..دبلومات..اعترافات من مختلف المنظمات..الجمعيات..المؤسسات الثقافية والأدبية والفنية الوطنية منها والعربية والدولية، والتي تشهد له بباعه الطويل في مجال التجديد والعطاء بٱسمه الكبير والأكاديمي كباحث مشارك وناقد ومفكر وكاتب وأستاذ ..!
لكن للأسف كل ذلك لم يحدث له ذاك الزلزال،والرجة الكبرى في عالمه الأزرق الذي يعشقه ويهواه ولا ينام إلا بعدما يحصي عدد المعجبين مناصفة،لكل ما ينشره و يتقاسمه مع من يشاركه تواجده وتميزه بينهم وبينهن…هههه!
أصيب سعد بالاكتئاب الحاد. لأنه يريد أن يجعل من نفسه نجما ساطعا..يتكلم عنه الجميع..يعرفه الجميع..يهنِّئه الجميع..يعلق الجميع عن منشوراته بباقة من الورد وبألوان قلوب حمراء..لذلك جرب الفكرة ما قبل الأخيرة لعلها تصطاد له سمكة فريدة من نوعها،في جوفها زمردة تُغَيِّرُ حياته نحو المجد المفقود..
نزل هذه المرة بكل ثقله على ملء C.V بمعلوماته الشخصية، ودون صفحة كاملة عن شخصه:
إنه الحاصل على و على..له من المؤلفات كذا وكذا.. حاصل على الإجازة في كذا وكذا..نال دكتوراه الدولة من جامعة السوربون..انضم للمجلس الفلاني..عضو باليونسكو..باليونيسيف..عضو بالمجلس الاستراتيجي للدراسات المعمقة شمال جنوب..باحث ومؤرخ في علم الأديان..سفير النيات الحسنة والسلامة والأمن لدى الأمم المتحدة..
انتظر سعد بعدها شهرا كاملا ،في ٱنتظار ما سيناله من شهرة وتميز و مكانة وحظوة بين دفء أحضان زوار البيت الأزرق..لكن المياه ظلت راكدة في مكانها..وتحتاج لصب جديد كي تنتعش فرشتها، ويتجدد ماؤها..
انهزم سعد ٱنهزامه الأخير، وظلت صورته عادية بين كومة من الألبومات والتعاليق والخرجات..فلم يتسوق تواجده أحد، أو على الأقل كما كان يتمناه..لذلك قرر ٱغلاق حسابه بالفيسبوك،ومقاطعته بشكل نهائي وفي حلقه غصة،وأمسى لسان حاله يقول كلما ٱلتقى مع صديق من الأصدقاء ألف تواجده اليومي بين رواد البحر الاجتماعي الأزرق..
-وسأله عن أحواله.
– وعن هجرته المفاجئة لبحره الأزرق الذي يعشقه وأمسى من ضروريات الحياة كالهواء والماء.
– كان جوابه في تحد صارخ :
كيف أننا استطعنا يا صاح ..! أن نهزم السيجارة الملعونة، بعزيمة وإرادة رغم إدماننا على شربها لعقود طويلة ،ولم لا نستطيع هزم هذا الإدمان الجديد لعوالم الفيس بوك و الواتساب والتويترX والانستغرام، والعودة من جديد للحياة الطبيعية ومرافقة كل شئ قديم كان في حياتنا رائعا وجميلا، بنكهته المادية في حياتنا المعاصرة، والتي قضت عليه التكنولوجيا الرقمية بالخصوص..
أقرأ كتابا أو رواية أو قصة..أستمع لموسيقى أندلسية أو كلاسيكية. نقاش أفكارنا في لقاءاتنا..نتحاور..نكتب مقالاتنا..قصائدنا كله بالقلم والقرطاس..نسافر.. نقوم برحلات ..نغازل عالم الطبيعة.. نتذوق كأس شاي منعنع، أو قهوة صباح جميل ..نقوم بخرجات..نسافر ونتيه لحظات رومانسية في عالم الطبيعة..نرى بعمق ونعيش لحظات حميمية في عالم الجبال والوديان والبحار والأنهار والصحاري والفيافي. نهيم في عالم الخلاء..نعطي حرية للنظر ، والتمتع بأشياء حية تمشي..تتحرك.. تنطق.. تتعايش.. تحس..وليس ما أعيشه في علاقة حميمية مع وهم وخيال، وكل شئ فيه أمسى في عالم المثل..
استشعر سعد حياته الجديدة التي ضيعها في مطاردته للوهم عبر عالمه الذي يسحر بأضوائه، بتنويمه المغناطيسي له..إنه عالم يصنعه الكبار ..أولئك الذين يتحكمون في عقول بني البشر..ويجعلونها تعيش في كواكب أخرى غير الأرض..
عاد سعد لحياته القديمة التي فقدها كي يتذكرها من جديد. ووجدها بين صور ألبوماته القديمة.. وهو اليوم قد عاد كي يمسح عنها التراب الذي علق بها، ولكي يحييها من جديد في دواخله أولا، وتمسي مشروع حياته المستقبلية.فيما تبقى من عمره..

Share this content: