

يحكي لي صديق عزيز ؛عشنا معا في عالم طفولة زمان، عن طقوس رمضان في أيامنا الغابرة ، وما بقي من شظايا صور متناثرة تحملها الذاكرة الفردية هناك ببادية جماعة المفاسيس.. ويا ما عاش إنسانها القهر والظلم، و أصناف شتى من الإملاق والجوع والصبر.. رغم أن في باطن أرضه معدن يساوي ذهبا وفضة ..ورغم الفواجع لقدكان قانعا مغترا..وكان يعيش عيشة البؤس والبؤساء بلبوسها الدراماتيكي..وكان ليله كنهاره يواجه خصاصته بالدموع حينا، و بالتوجع والأحزان حينا آخر..فعالم الفقراء عالم له طقوس فريدة، تحز في النفوس الرطبة والهشة ..ولا يمكن للقلم مهما فعل ومهما اجتهد أن يخط خطوطه الرمادية و يسرد لنا واقعه العميق والمتعب…فلا يشعر بآلامه إلا من عاشه وشرب من حنظلة..فالفقر كفر..والفقر أحزان وانكسارات من داخل الذات البشرية فلا حد لها.. وما دخل الفقر بيتا إلا جعله ضيقا ومظلما وتعشعش بين جنباته كل أصناف الضياع والتشتت و الحرمان ..ولقد جعل ربنا العدل في شريعتنا الإسلامية ولعل نصيب الفقراء بين أيادي الأغنياء..فإذا ما هم حرموهم عطاء هم من زكاة وصدقة ومعروف فلا شك أن الله رقيب عتيد..ويقول الله عن مانع الزكاة عنهم :“﴿ يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾
[ التوبة: 35]
– والفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بيوم واحد ” وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ” جزاء لصبرهم على أوجاع وأحزان وآهات الفقر…وما أن يلج الفقير باب الجنة حتى يسأل:
– هل سبق لك أن عشت ضنكا في يوم من أيامك في حياتك الدنيا ..؟؟
– فيقول : لا والله ربي..
-إذ ينسيه العزيز الرحيم ما عاشه من قساوة وظلم وأوجاع، وهو يجاري صيفه وشتاءه بالعراء والجوع والخوف..!!
– بلغة عصرنا، يحذف له ربنا كل ما كانت تخزنه ذاكرته من أيام شداد يأكل بعضها بعضا..
– فالفقير في يوم ولوجه الجنة ينسيه نعيمها وما تراه عينيه من مخلوقات وكائنات عجيبة وغريبة لا يتصورها عقل بشري أوجدها الله جزاء وإحسانا لمن كان له رب واحد يعلم أن الله قسم بين عباده في هذه الدنيا الفانية، الأخلاق و الأرزاق وأعطى الدنيا الدنيئة للذي يحب والذي لا يحب ، لكن الدين أعطاه سوى للذي يحب.
نتمم سردنا ونعود لتجسيد الفقر على الواقع..يحكي صديقي عبد الجبار، أن أمه قد أمرته بأن يأخذ الفطور لجارهم السيد لطرش وزوجته كنا نسميها مي لكبيرة رحمة الله عليهما، وقد كانا شيخان كبيران في السن ، قد أخذ منهما الزمان والفقر أخذته.. وهما يسكنان في شبه بيت من تراب وحجر ، لايحميهما لا من قر ولا من حر.
أدلف بعدما دفع باب البهو الكبير وهو عبارة عن قصدير قديم مهترئ..وكان الدخان يملأ أجواء المكان،فتعجب صديقي عبد الجبار للوهلة الأولى.. وظلت عدة أسئلة تتشابك في رأسه..!!
– من أين لعمي لطرش نقودا كي يشتري لحما.؟
لكنه ما إن تقدم حتى وصل للغرفة الوحيدة التي تجمعهما و حتى سالت عيونه دمعا.. وانقبض قلبه لما رآه وشاهده وظل حدثا يعيده لذاك التاريخ البعيد وعاش ما عاشه من عقود وسنين.
– قال: رأيت مجمرا مشتعلا فيه قطعة من الشحم تذوب ودخانها يستنشقونه في انتظار المجهول وبالقرب منهما براد شاي وقطعة من الخبز..
وضع لهما الفطور وعاد أدراجه، وقد حمل صورة للفقر المدقع ،سوف لن تمحى من ذاكرته أبدا.. ويحكيها لكل صديق عزيز عليه. لأن تلك الصورة مما لا شك فيه؛ أنها أثرت فيه، وهو الطفل البرئ الصغير.. وما زال لا يعرف أشياء كثيرة عن الحياة وأوجاعها وكأني به عند رجوعه يتساءل:
-لماذا يوجد في بيتنا أكل وشرب ودهن ..خضر وفواكه شتى..؟!؟
– وفي بيت عمي الكبير لا يوجد سوى حصير وفراش بالي وإبريق..؟!؟
– ولماذا…ولماذا..ولماذا..؟
– وظلت الأجوبة معلقة حتى كبر صديقي عبد الجبار…
-ووجد الجواب ؛ولعل ذاك المنظر قد يجعل منه إنسانا يعطف على كل فقير ومسكين..ولا يبخل عن من هم في حاجة للنوال والصدقة.. ومن يرحم من في الارض يرحمه من في السماء و الراحمون يرحمهم الرحمان…
Share this content: