مات موتة الفقير البئيس..قصة قصيرة -عبد الرحيم هريوى-جماعة المفاسيس -خريبكة اليوم- المغرب

مات عمي حمان موتة الفقير..

(مات المسكين يا حبابي حتى واحد ما مشى معاه )
جلس عمي حمان كعادته يفكر في لقمة الأفواه الجائعة لأبنائه الأربعة في عز الجفاف الذي ضرب البلاد في ثمانينات القرن الماضي … وهو الرجل المسكين الذي يعيش في صراع يومي للحصول على قوت يومه ، ولا من يساعده؛ ولا معين له إلا فلاحة موسمية وحماره وبعض الشويهات ، والتي يجعلها رهن القرض الفلاحي لما يراسله لدفع ما بذمته من مستحقات قديمة؛ مما يضطره لبيع بعضها أو كلها لجبر الضرر الذي يهدده في حالة إذا ما لم يقم بدفع القروض المتراكمة عليه …

إنه عمي حمان تلك الشخصية الكاريزمية وسط الدوار البدوي؛ الذي عاش فيه ، فالجميع ها هنا يعرفونه حق المعرفة … الصغار والكبار وحتى نساء الدوار يعطفون لحاله رغم أن تكافلهن معه يبقى جد محدود ، أو ظرفي ، لما تضيق به الدنيا بما رحبت… كما أن جل الأسر التي يعيش وسطها ؛ تعيش اكتفائها الذاتي ؛ لأن جل الرجال بدواره يشتغلون بمعمل الفوسفاط ولهم دخل قار يكفيهم ويكفي أسرهم ومتطلبات أبنائهم وبناتهم …
ومن مميزات عمي حمان أنه رجل يميل إلى الضحك والحكايات والقفشات و التقشاب وصاحب نكثة رغم أوجاع الفقر وويلاته… ولعلها طريقته الخاصة ليفرج عن نفسه والهموم التي يسبح في وسطها طيلة عمره الطويل ، وهو ليس له ولو عشاء ليلة… وكانت سيجارة كازا سبور لا تفارق فمه … يطفئ واحدة ليشعل الأخرى، ربما ظنا منه بأن نفثه دخان التبغ الأسود هو وسيلة من الوسائل التي تجعله يدفع عنه همومه بعيدة عن تفكيره وهو في لحظة نشوة عابرة .. وعادة ما تراه جالسا لوحده ، فمن عادته أنه يبحث له عن محاور كيفما كان نوعه، ليكلمه عن كل شيء يهم الدوار وشخصياته وظروف عيش أهله…
وفي إحدى المرات جلس في مكان يجتمع فيه رجال الدوار وهو مكان يسمى في زمانهم بالسور. شبيه بدار الندوة ولا يبادر في كلام مجلسهم المسائي إلا من كانت له مكانة وصيت وسلطة ومال … أما عمي حمان فلا يتكلم إلا لما يسكت القوم ، أو أمثال هؤلاء؛ خوفا على نفسه من (التنهسير) أو أن يسمع كلاما لا يعجبه، لأن في زمانه كان الفقراء يعيشون الحكرة بكل أنواعها بسبب تفشي الأمية والجهل ، وكان البشر يحكمه الدرهم في غياب القيم والأخلاق والروح الإنسانية…
وفي هذه السنة بالذات وفي عز الصيف، الجميع ها هنا بالدوار، أحس بضربة الجفاف ( ووصلت الضربة لعظم ) فالكل يبكي.. والكل يشكي .. وسمي هذا العام بالمغرب ؛ عام البون.. لأن في هذه السنة عرفت البوادي المغربية توزيع الدقيق المدعم من طرف المخزن، وذلك عبر المداشر والأسواق والقرى للحد من تأثير الجفاف على العالم القروي …فأطلق عمي حمان أذنيه لشكاوى جيرانه من مصيبة الجفاف التي حلت بالقوم، ففاجأهم بقوله ( نتوما يا الله وصل عندكم الجفاف فعمكم حمان عندو الجفاف سنين هاذي) …

صمت الجمع وهو يطلق كلماته المؤثرة، وكأنه يقول لهم ما يقوله المغاربة (الكلب الشبعان ما حس بالكلب الجيعان)… وبعدها أجهش بالبكاء، وجمع وقفته مهرولا بسرعة وهو يجر جلبابه البالي والممزق والذي لا يفارقه، وعادة ما يبدله، وكأن ليس له بديل عنه بسبب إملاقه ، ولأن عمي حمان ذلك الرجل البدوي المعروف عندهم ؛ والذي لا يهتم بمظهره الخارجي إطلاقا ؛ وليس من اهتماماته ولا يدخل في تربيته.. فهو ينتعل في رجليه بلغة متهرئة أكل الزمن جلدها؛ وتظهر منها عدة مسامير صغيرة وثقب؛ إنها أبشع صور للفقر يا ناس… وكدليل كذلك بأن عمي حمان كان يصلحها عند اسكافي السوق الأسبوعي، كلما رأى أن رقابها السفلي سينفصل عنها في يوم من الأيام ..وعمي حمان له تقاعد لا يسمن ولا يغني من جوع و يستلمه بعد مرور ثلاثة أشهر؛ وهو لايتعدى 500 أو 600 درهم لا تكفيه حتى في شراء أكياس الدقيق لأبنائه…
عاش عمي حمان حياة صعبة وهو يصارع الزمان ..وهو يذوب ..(والقلب المجروح لابد ينين ) (ردت لمحاين صوت حنين) … ولا أمل له في ما تبقى من عمره .. فمرة تراه بمحراثه الخشبي يقوم بحرث قطع أرضية هنا وهناك، لعل العام يكون ممطرا ،والمحصول الذي يحصده يبيعه ليسدد به قروض القرض الفلاحي ،الذي كان كلما سلمه المقدم ورقة من هذا البنك تنزل الصاعقة على عمي حمان، وهو الذي يعلم علم اليقين بأن القرض الفلاحي لا يأتي منه إلا ما يخطف النوم من جفن عمي حمان

وفي أحد أيام الصيف الحار جنى عمي حمان ( شواري ديال الكرموس ) وامتطى حماره متوجها إلى القرية ليبيعه ويرجع ببعض الدريهمات لشراء ما تحتاجه أسرته من ضروريات ، وظل عمي حمان يطوف بحماره بين الأزقة والبيوت لعل أحد يساومه بضاعته … للأسف لم يبع شيئا في يومه الحزين ؛ وعاد على طوله خاوي الوفاض، وحينها لم يقدر المسكين الرجوع ببضاعته للبيت وزوجته تنتظره ليعود لها بأكثر من حاجة ..عاد عمي حمان فوق حماره وبالكاد يتحرك لشدة حرارة الصيف ؛ وصل منهكا إلى الدوار وكأنه يقول لجيرانه فها هو حالي يا أهلي و يا أحبابي و يكفيكم عن سؤالي .. أليس في قلوبكم رحمة ؟
نزل من فوق ظهر حماره وقصد جنبات الحائط ورمى بجسمه النحيل الذي يغطيه جلبابه الصوفي الثقيل في عز حرارة الصيف؛ وأدخل يده في جيبه وبسرعة أشعل سيجارته كازا سبور، وهو يتنهد ويحكي لزوجة أخيه ما وقع له في هذا اليوم الحزين … لعل قلبها يحن ويعطف لحاله …ولكي ترى حقيقة عمها حمان وتعطف عليه بنوال يخفف عنه معاناته وآلامه وهو في مواجهة أيام عصيبة كلها فقر وحاجة وإملاق..
أتمم عمي حمان سيجارته بسرعة فائقة ثم أشعل ثانية..أتمم كلامه.. أتمم شكواه.. أجهش بالبكاء كطفل صغير..من رآه تألم لحاله ..الكل عاش هذه اللحظة الحزينة … المؤثرة … الرهيبة … لحظة ضعف بني الإنسان أمام غدر الزمان وقلة حيلتنا أمام القهر والفقر …وعمي حمان ما زال أولاده الصغار لا يقدرون على مساعدته وهم ما زالوا في حاجة لمن يرعاهم و يعولهم..
عاش عمي حمان أشكال وأنواع وأصناف الفقر…ولا أحد كان يرحمه … ولا أحد كان يحن عليه … عانى المسكين لوحده في صمت رهيب…وظل يعيش بيننا كالبوهالي… تلك الشخصية التي يعتبرها المغاربة ، أنها مخالفة لعامة الناس لكنه يكون مميزا عنا بأشياء لا نعرفها ولا نعطيها اهتماما إلا بعدما يغادرنا…وتبقى أقواله وحكمه عبر ودروس للأجيال التي تعيش بعده…
مات عمي حمان وسط بيته المتواضع ، الذي بناه من الحجر والتراب ويحيط به سور دائري مال عليه الصبار… و ببهو كبير يربط فيه حماره وسيلة نقله الوحيدة ورفيقه المخلص ،ولعله الوحيد الذي يشعر بآلامه وأحزانه ..مات موتة الفقير المسكين …غادرنا عمي حمان حزينا بدون رجعة… ولما غنى الباطما العربي صاحب الحنجرة الذهبية لناس الغيوان على المسكين في رائعته (السيف البتار) وهو يقارن بين موتة الغني والمسكين، حينها تذكرت قصة عمي حمان…


(مات الغني يا حبابي طلبة وعوام تبعاه//
شي يقرا عند راسوا //شي شاد السبحة حداه
ومات المسكين يا حبابي حتى واحد ما مشى معاه //
قرا طالب عد راسوا وبزز عليه ما قراه//
لا غا لهموم بالجملة والغني ساكن حداه//
وهانت قولو وقلوا يا خونا في الله…


Share this content:

  • Related Posts

    عن ذاك الإبداع نتكلم..هريوى عبد الرحيم هريوى -خريبكة اليوم – المغرب

    عن ذاك الإبداع نتكلم.. هو ذاك عالم الإبداع بل هي ثقافة الإبداع التي نتسلق أبراجها عبر السنين وتلك الثقافة لا تتساقط كفراشات من الذهب والفضة من السماء على خيال المبدع فيصبح في وقت وجيز من المبدعين ،في أي مجال يتواجد فيه الإنسان بفكره وعقله وأحاسيسه،في الموسيقى كما في السينما والأدب والمسرح والشعر لنضرب مثالا على ما قلناه،قبل أن يرتقي صاحب جائزة…

    Read more

    حريرتنا حريرة ..وحريرة با ميلود في درب بوعزة بن علي بخريبكة ..!! قصة قصيرة عبد الرحيم هريوى خريبكة / المغرب

    بين ثنايا السطورأغسطس 28, 2022  خريبكة / المغربكانت لنا صولات وجولات في زمان الثمانينيات من القرن الماضي مع حريرة با ميلود بدرب بوعزة بن علي، في محاذاة شارع محمد صدقي بخريبكة أي قرب الحركات.. ولقد كنا نتسابق بعفوية واندفاع حماسي على الطبلة الواحدة في انتظار  “الجبانية ” الواحدة لبا ميلود..! لأنه كان قد وضع لنفسه عقدا يربطنا معه وهو عبارة عن…

    Read more

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    You Missed

    نص جدير بالقراءة “زينة الدنيا” للشجاعة التي أبداها الكاتب في الغوص في عتمات و ظلام زمن الأندلس.عبد الرحيم هريوى – خريبكة اليوم – المغرب

    نص جدير بالقراءة “زينة الدنيا” للشجاعة التي أبداها الكاتب في الغوص في عتمات و ظلام زمن الأندلس.عبد الرحيم هريوى – خريبكة اليوم – المغرب

    عن ذاك الإبداع نتكلم..هريوى عبد الرحيم هريوى -خريبكة اليوم – المغرب

    عن ذاك الإبداع نتكلم..هريوى عبد الرحيم هريوى -خريبكة اليوم – المغرب

    إذا ما سبقنا القارئ فكل ما سنكتبه يخرج أصلا ميتا ..عبد الرحيم هريوى – خريبكة اليوم – المغرب

    إذا ما سبقنا القارئ فكل ما سنكتبه يخرج أصلا ميتا ..عبد الرحيم هريوى – خريبكة اليوم – المغرب

    حريرتنا حريرة ..وحريرة با ميلود في درب بوعزة بن علي بخريبكة ..!! قصة قصيرة عبد الرحيم هريوى خريبكة / المغرب

    حريرتنا حريرة ..وحريرة با ميلود في درب بوعزة بن علي بخريبكة ..!! قصة قصيرة عبد الرحيم هريوى خريبكة / المغرب

    صباح الصباح ؛لكل الذين يُحَرِّمُون الإبتسام..عبر رسائل رقمية للكاتبة المغربية ..!فاطمة العبدي- خريبݣة اليوم – المغرب

    صباح الصباح ؛لكل الذين يُحَرِّمُون الإبتسام..عبر رسائل رقمية للكاتبة المغربية ..!فاطمة العبدي- خريبݣة اليوم – المغرب

    ✓ من وحي الواقع . علال الجعدوني بني وليد تاونات المغرب .

    ✓ من وحي الواقع . علال الجعدوني بني وليد تاونات المغرب .