
ممر ملكي.تورية لغريب Touria Laghrib
المشهد القصير الذي حملني دون وعي مني، لأكون بطلته لم يكن جميلا في تفاصيله التي أوحت إلي منذ البداية بأنني الشخصية الرئيسية،التي تتناسل حولها أحداث خارج الزمن المتعارف عليه، فرأيتُني أجهز نفسي لحدث بدا لي مهما للغاية. على يميني ورد مجفف وحناء، وعلى شمالي قوارير ماء الزهر، ولكن حين وصلت صديقتي تحمل رداء أبيض ناصعا مشيرة إلي بأن أرتديه، تبينت أنها رحلة أخرى، نحو حياة تختلف تفاصيلها الدقيقة، عما عشته سلفا.
عند هدوء الفجر، سكن الليل وفاحت رائحة الحناء أكثر قليلا من رائحة الورد المحنطة وريقاته والتي طالها الذبول، كما أفكاري التي أضحت عاجزة كذئبة عجوز، أسدلت شعري استعدادا لشيء ما، لكنني لم التفت لأرى الفراغ الذي لم تتسع رقعته كثيرا، فقد شعرت أنني داخل مركب يكفي لشخص واحد، قالت صديقتي هامسة ” سأفتقدك…” لكن نظرتي الحائرة حول مايقع، ألجمت فراسَتي إلى أن فطنتُ لوجهها المتورد من أثر البكاء.
ودون أن أسألها عن شيء، وفي الوقت الذي كانت فيه تهرق الدموع، كنت بدوري أفتح قناني ماء الزهر لأهرقها على جسدي الذي كان مغروسا وسط حفرة، لم أستطع أن أجزم إن كانت أصيصا يكفي لجسد امرأة، أو مركبا يعرف وجهته تماما أو حتى قبرا
لا أحد في المكان سوى نصوص تراءت لي كنت قد كتبتها، تلوح لي من بعيد، و تبتسم وأنا أشد الإزار الأبيض معلنة الرحيل الأخير.
حينها كان الإذعان لما يجري خيارا أوحد بحيث إن الصراع بين دافعية الموت ودافعية الحياة أضحى على نفس المسافة، تجردت من العناد والمطالبة بحقي في الاقتناع كما دأبت على ذلك وهأنذا أتمدد داخل الحفرة أقنع نفسي بأنني سأعيش حياة أفضل داخل عالم لا أعلم عنه الكثير .
وماهي إلا ثوان معدودات حتى غفوت، تاركة ورائي هواجسي.
تيقّنت أنّني ألتقي بحتفي وجها لوجه، لدقائق ربما معدودات، وبأنني عنصرٌ رئيسٌ لنهاية حتمية، طالما تلاعبت بخيالي المُترع على عالم، أطل عليه من خلال القراءة لكتب الفلسفة والدين…وعلم النفس
أنتشي بِمُتعة شبه حقيقية، تأخذني شيئا فشيئا بعيدا عن عالم عشت فيه عمرا غير يسير، وبمتعة الانعتاق من قيود فرضها انتظامُ كونٍ لم أشعر بالانتماء إليه.
“ربما هناك أسير إلى حيث أصير كائنا آخر، أو إلى العدم”
هكذا اجتاحني فكرة مجنونة، هي آخر ما أودّع به عالما أرعن,ثم أقفلتُ عينيّ في هدوءٍ طفولي.
مستسلمة تماما لرائحة الحناء الممزوجة بماء الزهر، أكتسي رويدا رويدا روحا أخرى، في حين تركتُ صديقتي منهمكةً في وصلةِ بكاء، تتلاشى زفراتُه المتناهية إلى سمعي الذي تخللّتهُ صور وألوان، سرعان ما تتهاوى كما التراب الذي هالته أيدي لم أتبين من ملامحها شيئا ولم أنشغل بالأمر.
دفءٌ خفيفٌ يزحف فوق جسدي المُسجّى بالبياض، لعلّه إشارةُ الوصول الآمن إلى حيث لا أدري، بدأت الشّمس تُرخي بِظلالها فوق جبيني .
في الواجهة المقابلة، ممرٌّ طويل بجدران سميكة عُلّقت عليها لوحات تشكيلية، وفي آخره يتراءى باب غرفة، باب غرفتي، يجب أن يكون مَن في البيت غائبون، وهم بالفعل غائبون، سلكتُ المسافة الفاصلة بين الممرّ وغرفتي، بخطى مُسرِعة، تَصلني همهماتُ نحيب فأُسرِعُ الخطى أكثر، أفتح باب الغرفة، السرير مُرتّبٌ بعناية، وعلى سطح المكتب الموجود بالزاوية، تتكدّس كُتب علم النفس، روايات باللغتين العربية والفرنسية،وكُتبٌ أخرى ، أشعّة الشّمس تنسدل من النافذة الوحيدة بالغرفة، وأنا مستلقية فوق السرير أتوسّد مخدّة قرمزية اللون، وعلى الطاولة المجاورة كتاب فرويد : L’interprétation des rêves.

Share this content: