
في إحدى مدننا العتيقة بإقليم الفوسفاط عاشت هاهنا في الأزمنة الغابرة امرأة فقيرة بئيسة تجاري الأيام بما أوتيت من صبر وجلد وتحمل..إنهاشامة التي لا تخطئها العين..في زمانها كان الفرنسيون يحتلون الأرض وأجواء السماء..ويهينون الخلق..ويستنزفون خيرات الوطن أينما وجدت..وكان العباد في ذاك الزمان يعيشون القهر المزدوج..وكل شيء يعطى ” بالبون”..وفي يوم رحيل تلك المسكينة “شامة “داع الخبر بين أحياء وشوارع وأزقة المدينة العتيقة..كل الناس يعرفونها بلباسها البالي المرقع..وبمشيتها البطيئة الحزينة ..وهي ذاهبة تبحث لها عن قشرة رغيف تسد بها رمق جوعها المستمر..كان ذاك في زمن الجوع والخوف..في زمن عام بوهيوف..ذاك الاسم الذي أطلقه المغاربة في زمان القهر والظلم والتسلط وتوقف الرحمة من السماء.. وقد انحبس القطر.. وما وجد الإنسان لنفسه سبيلا للبقاء على قيد الحياة..وما يسد به رمق جوعه الطاحن إلا عشبة “تافغة ” وبعض النباتات وأعشاب البراري كالعوسج والحميضة وقليل من الشعير الحايل..
ففي ظل هذه الظروف اللاإنسانية مات من مات..وعاش من عاش ..وجاع من جاع ..وقاوم من قاوم قساوة البشر والحجر والأرض..وفي يوم مشهود له الناس، كان موعد رحيل المرأة المسكينة ” شامة “و كان ذلك يوم عطلة للمقيم العام الفرنسي التي تصادف نهاية الأسبوع..فلم يجدوا بماذا يكفنون به تلك المخلوقة البئيسة،لأنه هو الآمر الناهي بآسم أمهم وجدتهم فرنسا..فلا لغة تعلو فوق لغة “فرنسيس”ولا مخلوق آخر يمكن أن ينوب عن المقيم العام.فهو الذي يرخص لهم بشراء الكفن.فحاروا في أمرهم،وفي كيفية الحصول على مرادهم ،وفي كيفية تدبير حالهم و الحصول على كفن أبيض يسترون به هذه المسكينة التي عاشت تكابد وتعاني قهر الزمان وظلم الخلق لوحدها.وها هي جثة هامدة باردة ما زالت تنتظر من يسترها قبل إقبارها تحت سقف الظلام من جديد..ولعلها تنتظر رحمة من رب الأرض والسماء..لقد انتظر الجيران لساعات طوال قدوم المقيم العام ..وأخيرا استيئسوا منه و خلصوا نجيا ..فما عاد ذاك المخلوق الفرنسي.وما رجع للبلدة.وإذا بأحدهم بمحطة الحافلات قد رمق صديقا له من أعيان البلدة ورجالاتها في ذلك الزمان ، ينتظر قدوم حافلة ” الساتيام ” للذهاب للدار البيضاء ،فقصده جاريا وحكى له القصة بكاملها وما وقع لأيقونة المدينة العتيقة ، حيث أخبره بموت ” شامة ” المسكينة ابنة المدينة الأثرية..وما وجدوا المقيم العام كي يسلمهم البون لشراء كفن لها..ففكر وقدر ذاك الرجل ثم فكر وقدر مليا مع نفسه، وهو ينظر لصاحبه واتخذ قراره الإنساني بعد حين، والذي يشكر عليه.و أزال سلهامه المنسوج من المليفة من فوق كتفيه وأعطاه لصاحبه وقال له :
– أسرعوا.. إذهبوا و كفنوها بهذا الكتان..!؟
وعاد الرجال مسرعين للجثة التي تنتظر خرقة تسترها ،إذ سخر لها الرحمان ثوبا لا يلبسه في ذاك الزمان إلا أغنياء زمان بوهيوف…
في زمن الجوع...
في زمن القحط…
في زمن الضياع…
في زمن الخوف...
في زمن تتوقف فيه حياة بني البشر فوق الأرض حيا كان أو ميتا
دفنت المسكينة ” شامة ” في ثوب من المليفة.وبقيت حكاية تتناقلها الأخبار من جيل لآخر. الجنيد البغدادي العالم المسلم وسيد من سادات الصوفيةقال :”الحكاية جند من جنود الله” لما فيها من عبر ودروس من الحياة..وكلما تذكروها قالوا بعاميتهم المعهودة :
– “وأهناما مدفونة عا شامة فهاد الروضة ..”
-” الله يرحمها قال لينا جدي كفنوها بثوب لمليفة..”
Share this content: