
نص قصصي :ختمت: أنا الخلاص.قبالة أوطيل أونومو بالرباط بقلم الكاتب ابن الكاتب عدنان هريوى
المكان: قبالة اوتيل أو نومو بالرباط.
الزمن : 13 دجنبر 2024 على الساعة 06:45.
متجها كما عودت نفسي نحو مقهى يغص بالغائبين. مقهى يراه العامة فارغا من الجالسين وأراه ممتلئا عن آخره بالقاعدين. ألقي التحية على من يحملون أكواب قهوة خاوية وأنضم لهم في أحاديثهم الصامتة.
يأتيني النادل: السلام عليكم.
أجيبه: علينا وعليك سلام الله. نورمال بلا سكر فكاس.
بعد أن ناديت على معشوقتي السوداء، أجر الكرسي الذي بجانبي لأن هنالك زائر سيلتحق. أرفع رأسي لمد البصر إلى ما استطاعت له العين سبيلا، فأراها قادمة من بعيد. إنها تتمشى مشية “البطريق الفكعان” من جديد. تحركها المائل يذكرني دائما بعبارة “نميلو وما نطيحوش”. تقترب ويقترب معها النور الذي أضفته على حياتي يوم معرفتها. ملامح وجهها تظهر تعاسة وتعبا أعرف مصدرهما جيدا. أنا متأكد أنها تتذمر من لقائنا الصباحي الباكر قبل سطوع أول شعاع شمسي. رأيتها تحملق في الكراسي لعلها تجدني. وبمجرد ما أبصرتني: ابتسمت.
تصرخ بصوت خافت “أنااااااان”. إنها تقلد إياد ومحمد رضى عندما كانيا صغيرين. تعلم درجة تعلقي بأبناء أخواتي فتسقيني من ماء الشوق. ينطلق حسها الطفولي وتطلق العنان لطنزها: صباح الفل للناس الكل، صباح الأناقة يا فاقد اللباقة، صباح الصباح، صباح يا عليم”. كل غائبي القهوة نظروا لي مستغربين: “يا أبا لحية، من هذه التي تفقدك صرامتك؟”
تجر الكرسي الذي بجانبي وتجلس. تلقي نظرة خافتة على الطاولة وتستغرب: “يالاه وصلتي إذا، خاص نسكت”. أنظر إلى السماء مبتسما وأقول لها : “إنها التفاصيل.. شكرا حيتاش تاتنتابهي لها”. بخلاصة، علمت أنني لم أشرب قهوتي بعد، ما يعني أن مزاجي ليس مستقرا. فما دامت الطاولة فارغة، فالمعشوقة السوداء لم تحضر بعد لتثبت ميكانيزمات دماغي ومحركات خاطري.
حضر النادل وحضرت معه النورمال ذات القبعة العسلية. وضعها أمامي كما كان يضع مسعود أوزيل الكرة أمام كريستيانو. كنت أنظر إليها في نظرة مشابهة لنظرة طفل صغير أهديت إليه لعبة للتو. أحسست بأن لحظتي الرومانسية الانغماسية لم تعجبها، فرمتني بتعليقها الدقيق : “أ سبق ونظرت لفتاة كما تنظر عيناك الآن للكأس؟”. حملت التركيبة السوداء بين يدي وشممت رائحتها العطرة ووضعت أول رشفة على شفتاي. سائلها يتسلل إلى فمي، وعيناي تنغلق في لحظة ارتعاشية أنتظرها ليلا لأعيشها كل صباح. أضع الكأس على الطاولة بعد موعد غرامي أصيل بين بشر وجماد، ولم أجد أفضل من ذلك الوقت للرد: “بل سبق وقبلتها وشممت رائحتها كما فعلت الآن”.
سادت لحظة صمت كما سادت سابقاتها. ثم دخلنا في عملية Q/A:
– هل حدثت من تحميك دعواتها؟
– نعم. أمي الحنون. حدث ذلك قبل مجيئك.
– غادي تريني ليوما؟
– اه. عندي الظهر. تلك العضلة التي يجب تعريضها…
– تعريضها باش يدويو الناس وراها وباش la veste تجي حساب 👌🏽 .. غير هذا، ما بغيتيش يكون عندك ولد يشبهك؟
– أنت حتما مصابة ب ADHD. ما علاقة الظهر بالولد؟
– أوليس الولد من يحمي ظهر أبيه؟
– أو العكس. على أي .. سعدات أمه به.. أما أنا، عارف أن راسو ايكون قاصح بحالي. المهم من هذا أنني سأكون في رحلة إعداد رجل لينقذ هذا العالم من تضارب تعريفات أناسه.
– وكيفاش غادي تربيه؟
– سأصاحبه. أنا لا أربي. أنا أصاحب. ربه إن تاه، لوصيكا كأصل، مدريد كمرجع، الغيوان كمؤنس، وحب الوطن كثابت….
– ما نسيتي والو؟
– نظرت لقهوتي ونظرت بعدها في عينيها ثم أجبت: عزها تعزك كمبدأ.
ابتسمت واللؤلؤ يسكنهما. إنها المرة الثانية التي ترديني قتيلا. ردفت متممة: تركيبتك المعقدة التي تدمج بين العربية الكلاسيكية، طفوليتك البريئة، رؤيتك البعيدة وحبك للرياضة تجعل منك ذلك الشخص المرغوب وغير المرغوب. فأنت كثير الحديث إن ارتحت، وصامت وجماد لا يتحرك إن أحسست بقلة التقدير. مقاتل إن شعرت بدفء من يحمي ظهرك، وأول المستسلمين إن فقدت الشغف. إنك فعلا كومة من المتناقضات.
حملت الكأس ووضعته بقوة مصدرا صوت اصطدام الزجاج بالخشب. وقبل أن أنطق أول كلمة، سبق لسانها: أعلم أنني قد أصبت. فأنا جليستك في صباحك، ويمينك في الوحدة، ومؤنستك في الغياب. أنا المتحدثة في الصمت، والصامتة في الحديث. أنا البلسم الذي يرطب تشابك عقلك، والمتاهة التي أُستعصي عليك حلها. لم تفهم لحد الآن لماذا تنتظرني صباحا بكل شوق. فهل سبق أن جالسك أحد غيري على الساعة 07:05 وأنت تشرب قهوتك؟ لا. لم يحدث.
أجبتها: وهل وجدت في مجالستي غير المتعة؟ وهل لقيت في تعقيدي غير الاستمتاع؟
حملت كأس القهوة من أمامي. وبحثت عن الموضع الذي لامست به شفتاي ثم وضعته على فمها. كانت جريئة بشكل كبير معي، وأنا الذي أعرف أنها متحفظة جدا مع العالم. أخذت رشفتها كما يأخذ المدخن نترته الأولى. حملت الكأس كما يُحمل الجنين أول مرة، ودلعت زجاجه بلسانها كأنها تلاعب خد إياد. فقالت لي: هل ستتركني حينما ستأتي؟
استدعيت النظرة التي ورثتها عن والدي، وعقدت حواجبي الضخمة. نظرة في الكأس ونظرات في أعينها. وأجبت: أنت تعلمين كامل العلم أنني أتخلى عن قهوتي في رمضان مضطرا غير باغ، وعن الرياضة في الإصابة مضطرا غير باغ، وفي العلاقات إن أسيء تقديري واحترامي مضطر غير باغ، ولكن، هل سبق وأن تركت خلوتي؟ لا. إنها أم استقراري. وأنت..
ختمت: أنا الخلاص.
Share this content: