-يقول إلياس كانيتي : ربما الأموات ما زالوا يوجدون هنا،يسكنون عددا قليلا من الكلمات،ومن يعرف هذه الكلمات سيكون قادرا على سماع الموتى.
-وإن إنتاج الثقافة وإنتاج الإنسان لذاته إذ ينتج لغته..
-إن النقد لا يعني القدح ولا يتنافى والاحترام” ليونارد لانسكي.
-لا شك بأن الأدب يعتبر الموطن الفريد للأقلام المفعمة بالحياة كي تعبر بطريقتها الخاصة عن الأفكار التي تؤمن بها.
-ارنست هيمنغواي عانى إدمان الكحول ثم انتحر ببندقية صيد لاحقا..
كلما كان مشروع الكاتب لنص روائي متميز كلما كان لوجوده مكانة متميزة كذلك في عالم الأدب الإنساني .ونص 1Q84 والذي يماثل في صورته الخيالية لعوالم يكتشفها القارئ متداخلة متشابكة كبيت العنكبوت ،استطاع الروائي الياباني هاروكي موراكامي أن يعطي للقارئ عبر العالم صورة جمالية عن ما وصله النص الروائي من إبداع فني كبير ،عبر أحداث مثيرة أقرب منها للخيال عن الواقع ،وكان لسرده المتسق في ثلاثة أجزاء قوة في البناء الدرامي وسعة في الخيال وإلهام أسطوري في الوصف وديمومة الزمن-مفهوم الديمومة كما عرفها برغسونBergson والتي تتميز باعتبارها زمنا ذاتيا -عن الزمن الموضوعي-
فيما يتجلى الزمن في الرواية حسب ما يراه الناقد محمد سويرتي فيما يمثل المحكي بوصفه خطابا -الزمن ويتجلى في اللغة ،لغة الوعي واللاوعي،لغة النفس والقلب ،لغة الإحساس الذي يذكي الخيال،ينقلنا من لحظة إلى لحظة ومن لذة إلى لذة حينما نتذكر أو نستعيد حدثا جميلا مر بنا كالبرق الخاطف فعبر سماء حياتنا الموحشة المظلمة في لحظة هي أقصر من اللحظة.وقد ينقلنا الخيال من ألم إلى ألم،ومن حزن إلى حزن ومن شقاء إلى شقاء..والمشاركة القوية لشخصياته في تأثيث المشاهد والفصول في النص ..الروائي الياباني باحترافية الكبار ظل يتحكم في خيوط لعبة السرد وتحرك الشخصيات والفضاءات والأحداث بشكل مذهل للغاية ،فقد يسحب بعض الشخصيات بشكل نهائي ويستحضر أخرى للمشاركة في أحداث جديدة ملزمة مع تطورات في بناء فني رائع ،لذلك يجد القارئ المتمرس تلك المتعة التي يبحث عنها في النص من خلال ما يمتلكه الكاتب من ثقافة أدبية ومعرفية تعطي لفصول الرواية تشويقا و الخيوط الناظمة في السرد الحكائي والقصصي الجميل -من خلال مثلا إدراج قصة ممتعة حول بلدة القطط الرائعة -لذلك بشجاعة متفردة في الكتابة الروائية ،لم يخرج عن مملكة النصوص الكبيرة في عالم الأدب الإنساني التي تمت هندستها بعقلية أدبية وفنية توحي للقارئ القوة الخفية التي يمتلكها هذا الكاتب المتميز، والنفس الطويل لديه في نزاله الأسطوري لكل مستحيل ،فأن تكتب ثلاثة أجزاء وبمهارة ودقة في سعة في الخيال، فلابد أن تكون من نوع الطراز الرفيع في مجال الكتابة الروائية المعاصرة ،وبالإضافة لملكة الكتابة الجيدة والخيال الذي يشبه خيال الشاعر والفيلسوف معا، لا بد أن تكون قارئا نهما وذو دربة في الغوص العميق في مجال التحرير الأدبي للنص الروائي-كان يستحيل عليه أن يصدق أن مثل تلك الذكرى ماهي إلا زيفا اختلقه ذهنه استجابة لحاجة في نفسه.لقد كانت من الواقعية والتماسك بمكان يستحيل معه أن تكون نتاج خياله-كيف يكون أسلوب الأدب العالمي الإنساني الذي يجعل من اللغة ثروته التي يرويها ويروجها بطريقته عبر نصوص رفيعة وفائقة الجودة-لقد قضيت رفقة هذا النص ما يفوق ستة أشهر تقريبا و بملازمة يومية في قراءته استطعت أن أحفظ عن ظهر قلب أسماء شخصياته الطويلة والمعقدة-إن للكتابة أسلوبها الخاص، كما أن لرنات الهواتف رناتها خاصة-لكنه يكون قدااتخذ صورة تشبه إلى حد بعيد صورة أدبية للسندباد البحري في سحر سرده للحكايات العجيبة والغربية في ليالي العرب كما يسميها أدباء الغرب “ألف ليلة وليلة”إذ سافرت عبر هذا النص وعشت وسط أجواء الثقافة اليابانية وشاركتهم أطباقهم في كل مناحي الحياة اليومية ،وفي كل مرة أجد نفسي أمام بعض الظواهر الاجتماعية التي نتقاسمها كمغاربة معهم في كثير من الأمور ،فمرة يجعلك الكاتب تعيش بين أزقة وشوارع طوكيو حياة عصرية والسرعة في الحركة وتكلفة العيش الباهظة ومرة أخرى يجعلها تعيش ما عشته مع الراحل القاص محمد زفزاف في نصه محاولة عيش ..وها هنا تتساءل كقارئ: –فهل صحيح ما يرويه كاتبنا وبأن هذا موجود في بلد نظنه في قمة الرفاهية والعيش السعيد؟ لذلك تبقى الرواية حمالة الأوجه ،وما دخول الفلاسفة والمفكرين على خط كتابة النص الروائي إلا من أجل عدم السكوت عن الكلام المباح وتعرية الجسد الإجتماعي والثقافي والسياسي. و فيما يعيشه الإنسان الياباني هو الآخر من صراعات وجودية وما يمارس عليه من سلط تحتاج لأكثر من توقف وتأمل وتبيان..خاصة وأنه لدينا أفكارنا المسبقة عن ما يعيشه الشعب الياباني من رغد ورفاهية في العيش ،لذلك يبقى النص الروائي كاشفا لكل الظلال الخفية من ثقافات شعوب المعمورة ،ويذهب عادة ليحفر في الأماكن المسكوت عنها أي التي يسكنها الشيطان أو ما هو شقي في حياة الإنسان… !!
لقد كانت الفتاة أومامه البطلة الرئيسية وهي في صور متشابكة في مجرى الأحداث و تنساق مع التدفق السردي..وظلت الأوصاف مفعمة بالحيوية والخيال.وفوق كل شيء كان للأسلوب جرس موسيقي رائع يتملك القارئ من حيث لا يدري ،وكأنك تقرأ مدن الملح لعبد الرحمن منيف في خمسة أجزاء إذ تتحول كمشارك داخل النص ولست بعنصر من خارجه بل تعيد التفكير في كل المشاهد من النص المقروء، وتبدأ في المناجاة الذاتية كي تبحث لك عن أجوبة وجودية وثقافية عميقة لأسئلة يطرحها النص ،مما يضفي على المقروء صبغة فلسفية تنضاف لما هو أدبي وفني -جمالي.
-منذ تلك اللحظة التي استمعت فيها إلى مقطوعة سينفونييتا التي ألفها ياناتشيك وهبطت درج الطوارئ هربا من الزحام المروري على الطريق السريع ،تم استدراجي إلى هذا العالم الذي تضم سماؤه قمرين، عالم 1Q84 المليء بالألغاز.ما الذي يمكن أن يعنيه ذلك؟
وما يمكن للقارئ في هذا النص أن يقف عليه هو كثرة من عناوين من نصوص روائية عالمية التي يستدل بها في حوارات متعددة لشخصياتها مما يعطي للنص زخمه الأدبي الجميل ،ففي انتقائه للروائيين الكبار كجورج أورويل مثلا أو تشيخوف وغيرهم
-ووجدت الأجزاء السبعة “لرواية البحث عن الزمن المفقود لمارسيل بروست “
-“رواية راحلة من إفريقيا لإيزاك داينسن”مؤلفة من الدانمارك صدرت في عام 1937
–جورج أورويل هو من قدم مصطلح الأخ الكبير المستبد في روايته 1984.ذلك ما أنا متأكد أنك تعرفه.كانت روايته معالجة رمزية للستالينية بالطبع.ومنذ ذلك الحين ،أصبح مصطلح الأخ الكبير يمثل رمزا اجتماعيا كان ذلك هو الإنجاز الأعظم لأورويل.فكم من أخ كبير بيننا اليوم.
-رواية أنطون تشيخوف جزيرة سخالين من جيل تولستوي ودوستويفسكي
-وكان للخطاب السياسي حضوره عبر التجريد الخيالي والوصف الرمزي اللغوي بلمسة إبداعية عبر بلدة القطط وفي سرد حكائي عميق يشد القارئ لعالم القطط الذي يجعله الكاتب سيناريو لفيلم خيالي مرعب ،في مكان يمر منه القطار لكن لا أحد ينزل ولا أحد يركب في أجواء محطة مهجورة..لا أحد من زمان بعيد يقف في انتظار قدوم القطار في تلك البلدة:”إنها قصة عن بلدة تحكمها القطط وكان عنوانها ” بلدة القطط “ويدخل إلى البلدة ويجدها غارقة في سكون تام،وﻻ يرى فيها أحدا .جميع المتاجر مغلقة ومقر المجلس البلدي مهجور..القطط قادرة على الرؤية في الظﻻم…ويترك بلدة القطط المخيفة..المكان الذي قدر له أن يضيع فيه”
اليوم أنهيت فصول النص الروائي 1Q84 ولا يمكن أن نقول عنه سوى أنه من فئة نصوص ثقيلة الوزن في عالم الهندسة الروائية المعاصرة،والتي تتطلب من مؤلفها الصبر الطويل،والخيال الممتد،والاحترافية في نسج خيوط بيت العنكبوت بكل فطنة وملكة في الكتابة الجيدة. نص من ثلاثة أجزاء يسافر بك إلى حضارة الشعب الياباني وتتعرف على كل صغيرة وكبيرة في حياة الشعب الياباني الثقافية والاجتماعية والسياسية والبيئية،وطريقة تفكيرهم وكل شيء ينفرد بها في هذا العالم و بدون حاجة للسفر “أنا أحب كتب التاريخ أيضا. فهي تعلمنا أننا متشابهون في الجوهر،سواء الآن أو في الأيام الغابرة .ربما تطرأ بعض التغييرات في الملابس ونمط الحياة.ولكن لا يوجد ذلك الفارق الكبير فيما نفكر ونعمل.فالبشر في نهاية الأمر ليسوا سوى ناقلات – ممرات للجينات-.فهي تمتطينا مثل أحصنة السباقات من جيل إلى جيل.والجينات ﻻ تفكر فيما هو خير وما هو شر“
–هل ترى في السماء قمرين ،قمر أصفر كبير وبالقرب منه قمر أخضر صغير..لكن لوحدك تراه ذاك المشهد،وليس بمقدورك أن تطلب من أحد أصدقائك أن ينظر للسماء كي يتيقن هو الآخر من ذاك الأمر ..لأنه بكل بساطة سؤال من طرف شخص مجنون..في السماء قمرين واحد أصفر كبير ،وبالقرب منه قمر أخضر صغير..يتدلى في صورة سوريالية اكتشفتها عيون خيال أديب في نص روائي ممتع ورائع إذ يحكي ما يحكيه للقارئ و ما يحمله عن عالم آخر من مفاجآت لم يخطر على بال القارئ،عبر عالم وجودي متخيل أدبيا الذي سنعيش فيه،إنه عالم 1984 والذي تبدل ٱسمه ب1Q84هو عالم الشرنقة الهوائية والرجال الصغار والأصوات المنبعثة من ذاك الكون الذي يلجه الزعيم لجماعة دينية ..لكنه؛ أي زعيم ذاك الذي يمثل رمز جماعته الروحية إذ يعتبرونه نبيهم الذي يستطيع أن يستمع لأصوات عبر عالم مفترض”في التنظيم الديني لساكي جاكه..لهؤلاء الصغار وجودهم الخفي بيننا ..ووظيفة الروائي أن يتخيل الأشياء التي لم يراها مطلقا..!؟!
-فكرت حتى الآن كنت أعتقد أنني ٱستدرجت إلى هذا العالم 1Q84على غير إرادتي .تمة شيء ما ضغط على زر التحويل،فتحول القطار الذي كنت على متنه عن الخط الرئيس ودخل إلى هذا العالم الغريب الجديد.وفجأة أدركت أني هنا- في هذا العالم يوجد به قمران ،ويسكنه الناس الصغار .وله مدخل ،ولكنه بلا مخرج..
يقول جان بياجي السويسري :”إن موقع العلوم الإنسانية من الموضوعية لمعقد بل هو أشد تعقيدا فهناك الذات المتمركزة حول نفسها وهناك الذات العارفة وكلاهما في تداخل عبر خيوط دقيقة يجمعها الفكر واللغة والتحليل والموضوع ،ولا شك أن كل شيء ينتجه الإنسان اليوم في عالم المعرفة عبر ميادين شتى وحقول متنوعة أمست في تماس مع العلوم الإنسانية بما فيها السرد الأدبي الذي تتم دراسة نصوصه عبر نظريات في علم النفس وعلم الاجتماع ،وذلك من أجل الوقوف على كل ظلاله الخفية الفكرية منها والاجتماعية والفلسفية والجمالية” والتحول الذي حدث في المنهج البنيوي ابتداء بالمنهج الجمالي ومرورا بالمنهج الشكلاني وانتهاء بمنهج الشعرية وآفاقها المستقبلية .*
-شئت أم أبيت،ها أنا ذا هنا الآن ،في سنة1Q84أما سنة 1984 التي كنت أعرفها فما عاد لها وجود .إنها الآن 1Q84.لقد تغير الهواء ،وتغير المشهد.يتعين علي أن أتأقلم مع هذا العالم الذي يحمل علامة استفهام في أسرع وقت ممكن . مثل حيوان أطلق وسط غابة جديدة. وكي أحمي نفسي وأحافظ على وجودي ،يجب أن أتعلم قواعد هذا المكان وأكيف نفسي عليها…في هذا العالم المستعصي على الفهم 1Q84 ذلك هو حيث توجدالآن ..
أي إحساس يعتريك كقارئ وأنت تدخل كشريك لنصوص روائية تختارها عن حب، ويتدفق زمن القراءة ببطء،فكيف تستشعر روحك وأنت تطرق باب السندباد البحري ولا تعلم ما سيحكيه عن مغامراته،وحينما تستوعب النص بكل تجلياته تبدو كمن له قدرة على الاستماع إلى الأصوات البعيدة
في كلمة أخيرة :
انتهت رحلة السفر الأدبي الممتعة مع نص كبير ورائع وجميل ظلت حياة ساكنته تطارد أفكاري وصرت أتخيل لأبطالها وجوها أنتقيها عبر خيالي ..نعم ؛كم من قارئ منا يبتلعه السرد ويجاري زمن قراءته كي ينهي ثقلا يحمله على عاثقه في أقرب وقت ممكن ،وصدق من قال : هناك من القراء من يعد الصفحات كمن يعد أوراق بنكية ،فذاك يعتبر من صفة ما لفئة من طينة قراء لا تلهمهم النصوص الروائية الطويلة جدا .التي تتطلب الصبر والآناة والشجاعة والتحمل. كما تحتاجه مثلا رواية البحث عن الزمن المفقود لمارسيل بروست. وهو نص من النصوص المضجرة التي تقرأ عادة في السجون. لما تحتاج من مساحة زمنية واسعة .عادة ؛ ما تقرأ صفحات ثم تجد نفسك وكأنك لم تتحرك من مكانك وتعود لما ذي قبل..
*-محمد سويرتي النقد البنيوي – والنص الروائي..نماذج تحليلية من النقد العربي..الزمن – السرد-الفضاء

Share this content:





