
01// عن ما يفيد به العنوان لغة ومعنى :
هلوسة : مصدر هلوسَ
– مصدر هلوسَ (علوم النفس) أخيلة يظنُّها الإنسان وقائع في حين أنها اختلاق ذهنيّ مرضيّ ينتج عن اختلال عقلي ما/منقول
– تعد حواسنا الخمس هي وسيلة اتصالنا بالعالم و نافذتنا لاكتشافه بما نراه، ونسمعه، ونشمه، ونتذوقه، ونلمسه، ولكن قد تؤثر بعض الاضطرابات النفسية أو العصبية وعوامل أخرى على طريقة عمل الدماغ و معالجته للمعلومات الحسية مسببة حدوث تصورات خاطئة غير واقعية تعرف بالهلاوس. تتعدد أنواع الهلاوس بناء على الحاسة المتأثرة فقد تتضمن رؤية أشياء غير موجودة أو سماع أصوات غير حقيقية؛ مما يؤدي إلى شعور الشخص بالانزعاج أو الذعر، وربما الانفصال عن الواقع.منقول
02// بعض من الكلمات عن النص. فلا يوجد نص بكر بل هو امتداد لنص قبله “باخثين”
دعني أكتب في حق نصك هذا بعض من الكلمات الجامعة لرؤية باطنية،لما نعالجه من نصوص عبر تماس بين الذات القارئة والخيال الممتد من المقروء. وما كان له أن يسقط سهوا هكذا؛وبدون تفكير عميق وأحداث تتراءى من أفكار نبنيها بناء قصصي جميل .إنه نص تتحكم فيه لغة الشعر بشكل مكثف،وقد لا نختلف حينما نرى بأن القصة هي نوع من السرد الشعري ،فلعل جملك التي تناسقت عبر تلاقٍ أدبي وفني من تشكيلة قصصية من بناء درامي من الصور والأفكار والشخصيات أعطت للقارئ بجمالية مثيرة جدا عن صورة أخرى حملها النص عينه عن كاتبة قصصية مغربية تبدع هكذا أفكارا، وتخلق لها من الواقع المعاش المادة الأدبية القابلة للحياة بين ثنايا سطور تحدث أصواتا من أجراس كلمات شاعرية تنطق لغة الأدب الحديث ..
03// قراءة أدبية وفنية للنص “هلاوس متقاعد”
يقال فلسفيا : ( إنه من الذاكرة يخلق الوعي) ومنها ننتج أفكارنا عن طريق احتكاكنا بالعالم الخارجي،وما كان للقاصة سلوى الإدريسي بأن تبدع إبداعها الكبير هذا إلا نتيجة ما جمعته ذاكرتها من نصوص سبق لها أن قرأتها برغبة وعشق ،لتصنع لنفسها هالة في عالم التناص الرقمي اليوم، وتنافس بعدها كبار الكتاب في مجال القصة القصيرة المغربية والعربية.والتي قد يتفق النقاد على أن كل قاص وقاصة له اشتغال ما على إحدى مكونات جوانبها الأساسية ؛فهناك من يشتغل على اللغة وتقنياتها ،وهناك من يبدع في التدقيق في الأزمنة والأمكنة.. ولعل القاصة سلوى إدريسي؛ أبدعت لها في الجانب الأهم وهي الشخصية،وبذلك حاولت بطريقة سلسة بأن تجعل القارئ مشاهد مفيد ومهم يشاركها رحلتها الخيالية ،وهو يتابع مسلسل أحداث نصها ” هلاوس متقاعد”عبر أسلوب شاعري من أساليب الكتابة النصية الحديثة في مجال النص القصير والطويل معا.والتي تتنوع حسب النصوص،بحيث قد ننطلق من مشهد نهائي كي نبدأ السرد الحكائي ،أو من خلال وقائع لأحداث مختارة بعناية كي تكون محط ٱهتمام القارئ للإقبال على ما تبقى من السرد،وقد نقول إنه “طعم السرد الشهي” إن صح هذا القول.كما أن الكاتبة بمهارة وحنكة ودربة وتجربة في الكتابة حاولت حصر نصها في عنوان روائي” هلاوس متقاعد” ولم يكن جمع كلمة هلوسة شكليا أو اعتباطيا بل هو تبيان لما يحمله النص من مجموعة من الهلاوس التي سيعيشها هذا المتقاعد المسكين عبر مشاهد حية سيمثل أدوارها على خشبة مسرح أحداث في سطح من سطوح البيوت المجهولة بل المهجورة ..
رفعت رأسي نحو السماء أراقب، ما تبقى من أمنيات. مقلتاي متعبتان، كأن بعض النعاس بدأ يتسلل إليهما.في حضرة ذاك الصمت، نزلت عبرات ساخنة، ولا أحد هنا ليمد يده نحوي بمنديل، أو ربما بطبطبة على كتفي، فأجهش بالبكاء المنحسر داخل صدري. السماء أيضا أقفلت أبوابها في وجهي، ولم تعد تعبأ بوجوه المنكسرين ..
إنه وصف دقيق وتفصيلي لشخصية بدون ٱسم بل هو الأنا الذي ظل حاضرا في مستهل النص.وحضور تأنيب الضمير وكما يقول ديدرو الإنسان كائن اجتماعي وأخلاقي معا.ولعل الوحدة التي يعيشها كبار السن و التي وصفها لنا جاك برييل / JACQUES BREL – في أغنيته – المُسِنّون – بطريقة مثالية تحكي ما تحكيه عبر مقاطعها من هذه القصيدة الغنائية ل جاك بريل،و التي ظلت موشومة في ذاكرتنا الجماعية نحن جيل الستينيات..
المسنّون لا يحلمون
كتبُهم تغفو
وأدواتُ عزفهم مغلقة
القط الصغير مات،
و خمرُ الأحد الحلوُ ما عاد يطربهم.
المسنّون لا يتحرّكون
حركاتُهم مثقلةٌ بالتجاعيد
وعالمُهم يصغر كل يوم،
من السّرير الى النافذة،
ثم من السّريرالى الكرسيّ ،
ثم من السّرير الى السّرير.
هم المسنون ومنهم المتقاعدون وعلاقتهم بالقطط التي تؤنس وحدتهم وعزلتهم.وقد كان عند الإغريق الكثيرون الذين يعتقدون بأنه على الإنسان أن يعيش منعزلا عن العالم كي تكون روحه في سلام.ولقد كانت نظرة فلسفية للسرد القصصي هذا الذي أبدعت فيه الكاتبة سلوى الإدريسي بكفاءة أدبية متميزة، وهي تدون في مستهله ما يلي:
بدأت مكبرات الصوت تصدح بأذان العشاء، مساجد كثيرة تؤذن في وقت واحد، كأنها أهازيج تنبعث من أعالي الجبال، يردّد صداها الكون كله. كان شعورا خرافيا، لا يمكن إدراكه إلا وأنت تحت الصفر…حاولت الانضمام إلى المصلين، لكن ماذا أقول وأنا ساجد؟ “اللعنة! لقد خسرت كل شيء”. كيف لي أن أضم يديّ الملطختين بدمائها الزكية، وأدعو لنفسي بالخلاص من هذا الرأس الذي يتذكر كل شيء ؟
كيف سأخفي عنك، يا إلهي، أنني قتلتها بدماء باردة؟ كانت صغيرة بحجم كفّي، لكنها أفسدت ثيابي، وقضمت ملابسي الرسمية.لم تترك لي خيارا آخر…أمسكتها بيدي وبدأت أضغط عليها كالعجين، إلى أن انصهرت أحشاؤها من بين أصابعي ، بدأت أصرخ وأعصر…أصرخ وأعصر…إلى أن طحنتها كلياً.
إن انتقال القاصة سلوى الإدريسي عبر مشاهد واقعية متخيلة جعلها لا تفقد ذاك الترابط السردي المعلن بين بداية الحكي والاسترسال فيه عبر صور نالت صبغة أخلاقية أكثر.بارتباطها بالمعتقد الديني وضميره الذي سيمنع المتقاعد من الانضمام لقافلة المصلين لحضور صورة الذنب الذي أعاده لطرح أسئلة تأنيبية كثيرة على نفسه و جعلته يجلد ذاته بطريقة عنيفة جدا.وها هنا تذكرت مشهدا من مشاهد رواية المغاربة لعبد الكريم الجويطي لما سمع البطل الأذان وتراجع عن الانتحار الذي على وشك فعله.وبالفعل هي محاكمة أخلاقية بين الخير والشر الذي يتملكنا بين الحين والآخر وأيهما تكون له الغلبة وينتصر في اتخاذ قراراتنا في واقع الحياة اليومية،واعتراف المتقاعد ذاك لم يأت صدفة بل جاء نتيجة التعلق الروحي لديه عبر ناموس سماوي، بطريقة من الطرق الصوفية التي اختارها صاحبنا المتقاعد لواقعته بل وضعته كاتبة السرد عبر سيناريوا الألم في مشهده الصعب، كمشهد من أنتيغون (سوفوكليس) في تراجيديا يونانية ..
ما آلمني أكثر هو أنني لم أتذكر لحظتها أنني متقاعد، والملابس الرسمية لن تنفعني في شيء، ولا أحد يزورني وأنا أسكن في هذه “السطح” الخرب …
يا ويلي! ماذا فعلت بتلك المسكينة؟ كانت تؤنسني بصوت خشخشاتها وهي تحاول المرور من كيس إلى كيس. كنت أراها وهي تقترب مني ليلاً، وتندسّ تحت اللحاف…لماذا قتلتها ؟! أنا مجرم ! أنا سفّاح !
إنهم قادمون…أسمع خطواتهم وهم يصعدون الدرج. صاحب الوزرة البيضاء سيدخل أولاً، ثم سيتبعه صديقاه السمينان، هل أخبرهم بأنني قتلتها ؟!
انتظر، أرجوك ! سأخبرك كيف حدث الأمر؛ لا تربطوني بتلك الأحزمة اللعينة، أنتم من أغلقتم أبواب السماء ! أعلم ذلك …
أنتم تسكنون السماء ؟! تعلمون كل شيء …لحافي ! أحضروا لحافي!
اجتهدت القاصة سلوى الادريسي أي اجتهاد في التوطئة عند البحث لها عن باب مجهول لدى القارئ كي تدخل معه إلى دهاليز قبوها المظلم ،وهي التي تتسيد الموقف؛ وتحمل شمعة في يدها كي تنير للقارئ ما تخفيه منعرجات السرداب، لكن بطريقة مناسبة جدا في دفع السيروم في جسد نصها المعلوم ،والذي تحكمت فيه بطريقة أمسى عجين طري بين أصابعها و طاوعها أشد الطوع اللغوي والجمالي في دخولها لعبة السرد من أي باب شاءت اقتحامه. لذلك جعلت من شخصية المتقاعد عدة شخصيات في شخصية واحدة، وهذا ما كان له أن يكون لولا نباهة الكاتبة وذهابها إلى أبعد نقطة في تغبيش أحداث نصها، بين معاني متداخلة، فيها ما هو قيمي، وما هو روحي إنساني وفلسفي أخلاقي وهي تجعل المتقاعد في موقف المجرم تارة، والمذنب ثارة أخرى .كما أنها استطاعت أن تلعب على عامل السن والشيخوخة والنسيان وضعف الذاكرة وتداخل الأحداث لدى صاحبنا المتقاعد، بحيث تحول النص كشاهد واقعي وحي عن حياة بؤس تنتظر هكذا متقاعد في حياته، إن هو وجد في عالم العزلة والوحدة وانتهى به مطاف زمانه إلى العيش في السطوح كاللقلاق ..وهو يكره صخب وضجيج زمانه الذي نفضه بقوة، ولم يعد قادرا على النزول لأرض الواقع ومجاراة الحياة في مجراها اليومي الطبيعي..!
صدق من قال كل نص يؤسس على مقروء سابق، وكل ما نقرأه قد نستدعيه في لحظة الكتابة ولا ندري من أين سيقدم علينا. فقد نقرأ وننسى، لكنها لحظات استرجاع نعيشها مع مقروء سابق . والقاصة سلوى الإدريسي ما كان لها لتكون بهذا الذكاء الواسع في البناء الدرامي -القصصي، لما كان للكتاب الشجاع ظلها الذي يرافقها في كل رحلة عبر أية كتابة جديدة..!

ميخائيل ميخايلوفيتش باختين ممن قدموا إسهامات معتبرة في هذا السياق، فهو منظر وناقد روسي يعد من أشهر نقاد القرن الماضي، درس أعمال مواطنه فيودور دوستويفسكي دراسة متأنية، ثم أصدر كتابا عنوانه “شعرية دوستويفسكي”، عام 1929، يعد من أفضل ما كتب عن صاحب “الجريمة والعقاب”، شكل من خلاله نظرية نقدية /منقول
Share this content: