الرسالة – نص قصصي قصير؛ للكاتب عبد السلام كشتير-الرباط -المغرب

حينما شرعت في تنظيف درج خزانة الملابس التي طالها النسيان، سقط من بين صفحات ألبوم الصور ظرف أبيض تحفه ألوان تزين جنباته بالأحمر والأزرق..

انحنت بصعوبة لتلتقطه وتتفحصه، قد يكون ربما من تلك الأشياء التي عادة ما تتخلص منها لتوفر مساحة أكبر لأشياء جديدة.

رسالة يرجع تاريخها إلى حوالي عشرين سنة. نظرت إلى تاريخ الإصدار المطبوع على ظهرها وكذا مصدرها.

صمتت قليلا وهي تحول عينيها إلى نافذة الغرفة حيث لاحت لها ذكرياتها الجارفة وهي تحاول استقبالها وتنظيمها…

جمعتهما كلية الطب التي كانت طموحها منذ انتقالها إلى الثانوي التأهيلي، وهي عازمة على تحقيق مشروعها الذي لازمها وملأ كل هواجسها وقلبها وذهنها.

طبيبة ..الدكتورة حنان.. هكذا كانت ترى نفسها وهي تتحدث عن مستقبلها. بل كثيرا ماكانت تتخيل نفسها بالوزرة البيضاء واسمها يزين صدرها في لافتة صغيرة لامعة خضراء مسبوقا بحرف دة. وعلى رقبتها تتدلى أطراف السماعة الطبية..

التقت به في إحدى الصباحات وهي تهم بالجلوس في المدرج. فسح لها المجال لتمر لكنها اكتفت بالمقعد القريب منه. قبل انتهاء الحصة بقليل همس إليها بكلمات هادئة كانت كافية لتستقر في قلبها قبل أذنيها.

بصوت خافت طلب منها محاضرات هذا الأستاذ لأنه تغيب عنها لأسباب قاهرة. فكانت انطلاقة صداقتهما.

مرت سنوات الدراسة بسرعة توزعت أوقاتها بين المحاضرات والتداريب والاستعداد للامتحانات. كانت تتوج بالنجاح في كل مرحلة.

عمقا تعارفهما فأصبحا حبيبين.. خطبها من أسرتها ووضعا برنامجا لاستكمال مراسيم الزواج على الطريقة التقليدية.

كانت بداية السنة الموالية للخطوبة هي المحطة الحاسمة في حياتهما، حيث سينتقلان للعيش معا في شقتهما الحديثة، لتكون عشا يضمهما ويكون شاهدا على حبهما القوي.

أصبحت طبيبة تزاول مهامها في مستشفي المدينة التي تقطن بها، لقد كانت متفوقة أكثر من حبيبها، فاستفادت من كرم اللجنة التي أشرفت على التعيينات. بينما رفض فارس أحلامها تعيينه في تلك المدينة البعيدة، مما دفعه للبحث عن بديل ٱخر يجعله يبقى قريبا من حبيبته.

لم تتمكن حنان من معرفة مصيره ولا كيف استقر حاله بعد حادثة التعيين. لكنها أرجأت الأمر إلى أجله، فهي منهمكة في عملها وفي الاستعداد لما ينتظرها من مظاهر الفرح..

ضاقت درعا من أسئلة أسرتها حول مٱل علاقتها ومستقبلها، والكل يسأل عن الخطيب الذي انقطعت أخباره فجأة…

حاولت الاتصال به لكن دون جدوى. سافرت إليه علها تكتشف سر هذا الانقطاع الغامض في التواصل. كانت مفاجأتها صادمة حينما أخبرتها أم خطيبها بحسرة واضحة أن ابنها غاب عن المنزل منذ رفضه التعيين، وعدم توفقه في إيجاد بديل عن العرض الذي توصل به. لم يترك أية معلومة ترشد الأسرة إلى مكان وجوده.

رجعت بخبرها المحزن وهي تجر أذيال الخيبة والأسى يأكلها.

كيف ستتصرف مع أسئلة أسرتها؟ وكيف ستدبر أمورها بعد غياب حبيبها؟ ما مصير علاقتهما وترتيبات حفلة الزفاف.. والمستقبل..

تزاحمت الأسئلة في رأسها حتى كاد أن ينفجر من شدة وقعها وتشابكها وغياب حلول لها.

مرت أزيد من عشر سنوات على غيابه، وهي تعيش على أمل رؤيته من جديد. اعتادت على حياتها الجديدة وأصبح المستشفى والمرضى والاجتماعات جزءا من حياتها اليومية. استأنست بأجواء الوحدة والشقة والحياة التي لم تخترها..

في إحدى أيام الربيع المشرقة، والأجواء تملؤها نسائم معطرة بأريج الأزهار الفواح، عادت حنان مبتهجة من عملها بعدما أنهت دوامها الليلي، وقد مرت على مقهاها التي لازالت تجلس فيه مع بعض زميلاتها، تستعيد فيه ذكرياتها لما كانت ترافق خطيبها. تجلس في الركن الذي كانت تحب الجلوس فيه لتناول وجبة الفطور كلما أنهيا حصصهما الدراسية الصباحية أو بعد التداريب. لما همت بفتح باب شقتها لاحظت في صندوق الرسائل ظرفا أبيضا مزينا بالأزرق والأحمر يظهر منه حوالي الثلث من فتحة الصندوق.

سلته وألقت نظرة عليه.. صمتت وأكملت فتح الباب.. ألقت حقيبتها اليدوية ووزرتها البيضاء بجانبها على الكنبة ثم همت بقراءة الرسالة.

إنها رسالة خطيبها!

أخيرا بعد سنوات يتذكرها ويراسلها ليبلغها بأحواله وأخباره..

قرأتها وقلبها يكاد ينفلت من بيت ضلوعها. تقرأ الجملة وتكررها ثم تحاول فهمها.. اختلطت عليها الأمور، ثم قررت إنهاء القراءة!

تركتها بجانبها دون أن تعيدها إلى الظرف الأبيض..

استلقت على ظهرها. أفرغت كل مذخراتها من الدموع.. حتى تبللت وسادتها. أرادت أن تصرخ أن تتكلم بصوت مرتفع.. لكنها هدأت وتنفست مرات متعددة. خطت خطوات إلى النافذة تأملت الشارع وحركة الراجلين والسيارات، والزبائن الذين يملؤون سقيفة المقهى المقابلة.. لم تتأكد من الزمن الذي استغرقته وهي تتأمل الفضاء الخارجي حتى أحست بالعياء يدب إلى جسدها. تخلصت من حذائها ومما بقي من ملابس، وارتمت تحت رشاش الحمام واهبة نفسها للمياه المنسكبة، كما لو أنها تبحث عن تطهير جسدها من متاعب السنين التي مرت، أو تزيح عنها الثقل الذي كان فوق كاهلها…

كشتير عبد السلام

Share this content:

  • Related Posts

    “رأسي مكتظ بأضواء” يصدح الشاعر المغربي أحمد نفاع في قصيدة اليوم – خريبكة اليوم – المغرب

    هل مازلتَ تستكشفُ أنفاسك هل ما زلتَ على قيد العراء، تسكن أقواس الليل تناجي خافت النجمات كالغريب .. هل مازلتَ تعجن العناد بريق الفقد تغرسُ نبتات الكفاح بين الصدغ والعين لِمَ لَمْ تعُد تستفزك رائحة الأدغال أرأيتَ كم عميقاً باتَ يحفر الخرف صخرك قال وُلِدت عارياً حراً لأحيا وبأقصى ما استطعت سأشهق سأزفر ناراً ونوراً وأُكرِمُ روحي المتعبة مثلها لا أخاف…

    Read more

    الشاعر المغربي أحمد نفاع يقرع أجراس العبث ويسبر أغوار القلب..خريبكة اليوم – المغرب

    لا عليلاً .. كما ضوء خافت يهتز كما ظل يترنح وسط شتات هو، هكذا قلبي ولا أخفي كم، مثله أرتجف معاً نكنس الدروب والطرقات نتجرع آخر ما بقي من نورانية الأشعار معاً غير عابئين عاريين من الزيف لا ندعن لصواعب ” المنفى “ لا نكترث لهذيان أجراس العبث وهي ترن و ترن أحمد نفاع Share this content:

    Read more

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    You Missed

    وتبقى الشمس مصدر إلهام كبير في مخيال عالم الأدب وفنونه عبر العصور، ولها مكانة أيضا لدى الشاعرة المغربية سعاد بازي – خريبكة اليوم – المغرب

    وتبقى الشمس مصدر إلهام كبير في مخيال عالم الأدب وفنونه عبر العصور، ولها مكانة أيضا لدى الشاعرة المغربية سعاد بازي – خريبكة اليوم – المغرب

    في عناق صادق للحرف عبر بوح عميق للشاعرة المغربية زهرة أحمد بولحية- خريبكة اليوم – المغرب

    في عناق صادق للحرف عبر بوح عميق للشاعرة المغربية زهرة أحمد بولحية- خريبكة اليوم – المغرب

    “رأسي مكتظ بأضواء” يصدح الشاعر المغربي أحمد نفاع في قصيدة اليوم – خريبكة اليوم – المغرب

    “رأسي مكتظ بأضواء” يصدح الشاعر المغربي أحمد نفاع في قصيدة اليوم – خريبكة اليوم – المغرب

    حرية القراءة هو دفاع عن الحق في أن نكون.ذاك ما ذهبت إليه القاصة سلوى إدريسي والي.. خريبݣة اليوم- المغرب

    حرية القراءة هو دفاع عن الحق في أن نكون.ذاك ما ذهبت إليه القاصة سلوى إدريسي والي.. خريبݣة اليوم- المغرب

    في سفرنا الجديد عبر القراءة لتراثنا القديم مع ليلة العرب كما يحلو للغربيين تسميتها -عبد الرحيم هريوى -خريبكة اليوم -المغرب

    في سفرنا الجديد عبر القراءة لتراثنا القديم مع ليلة العرب كما يحلو للغربيين تسميتها -عبد الرحيم هريوى -خريبكة اليوم -المغرب

    المرأة الخريبݣية بين التقليد والحداثة :صورة في الموروث الفني والمحلي- راضية بركات- خريبݣة اليوم – المغرب

    المرأة الخريبݣية بين التقليد والحداثة :صورة في الموروث الفني والمحلي- راضية بركات- خريبݣة اليوم – المغرب