
الفيسبوك … آفة العصر … الضرورية.
لا شك في أن الفيسبوك وسيلة التواصل الإجتماعية الأكثر جماهيرية ، والأوسع استعمالا بين رواد السوشيال ميديا عموما ، مقارنة مع الوسائل الأخرى . فهو يتجاوزها على أكثر من صعيد ، ويحتل إثر ذلك رتبا جد متقدمة ، في سلم الإستعمالات ، مقارنة معها .
وتأتي هذه المكانة المهمة التي يتبوأها ، نظرا لاستفادة هذا التطبيق الفريد من تضافر عدة عوامل ..
– فهو تطبيق مرن وسلس ، كوسيلة للتواصل الإجتماعي ، يوظف تقنيات تواصلية متنوعة في نفس الوقت : كالكتابة والصورة والأشرطة والصوت …
– يستفيد المشتركون فيه ، من بساطة الولوج إليه ، وسهولة فتح حسابات خاصة بهم دون أدنى تعقيد ..
– الانخراط الواسع للرواد فيه ، وتزايد أعدادهم بوتيرة تصاعدية ، مقارنة مع التطبيقات الأخرى . وهي ظاهرة بادية للعيان ، فكل الدراسات التي تناولت وسائل التواصل الإجتماعي أكدت ذلك .. وسجلت احتلال الفيسبوك المرتبة الأولى من حيث عدد المكتتبين فيه .
– لهذا صار الفيسبوك جزءا لا يتجزأ من المعيش اليومي لهؤلاء الرواد ، وضرورة حياتية ووجودية لا محيد عنها بالنسبة لهم ، إلى درجة أن غالبية المشتركين لا يتصورون حياتهم ووجودهم من دونه ، ولا يستطيعون البقاء بعيدا على الإطلاع على منشوراته في كل لحظة وحين ، بحثا عن المستجدات وإشباعا لرغبات جارفة ، وفضول لا حدود لها .
بل هناك من يعتبر أن من لا يتوفر على تطبيق الفيسبوك في هاتفه الذكي ، كمن أصبح خارج الزمن أوخارج التغطية ، ولا يساير التطورات التكنولوجية الرقمية الحديثة والعصرية ..
– هؤلاء الذين يدافعون عن الفيسبوك ، ويعتبرونه وسيلة إيجابية ويثمنون استعمالها ، هم من المحبين للدردشة والإبحار في العوالم الزرقاء ، يرفضون بشكل قاطع اعتبار الإبحار في منشورات الفيسبوك مضيعة للوقت ، وغير مجدي ، وعديم الفائدة والمنفعة بالنسبة للإنسان .
بل بالعكس ، يرونه وسيلة لتقريب الأصدقاء والأحبة ، وساهرا على العمل الدائم على إيجاد رفقاء وأصدقاء جدد ، أو إعتباره أداة ناجعة للبحث عن من انقطعت أخبارهم عن ذويهم وأصدقائهم ، فيصبحون حقيقة وواقعا بعد العثور عليهم ، فيفتحون صفحات جديدة للتعارف بينهم ، وبين من ابتعدوا عنهم وغابوا لفترات طويلة ..
– كما يعتبرونه مصدرا للمعلومة ، وقناة من قنوات الإعلام والتثقيف والترفيه ، فضلا عن أنه فضاء لعرض مختلف الخدمات .
من هنا يصبح الفيسبوك وسيلة تواصل أساسية ، لا تعوض ، ولا يمكن تجاوزها ، أو الانشغال عنها ببدائل أخرى رقمية أو ورقية ، أو بأي شكل من الأشكال التواصلية الأخرى المتاحة ..
أمام هذا السيل الجارف من الإغراءات ، والانجذاب الذي يمارسه الفضاء الأزرق على كل مرتادي الشبكة العنكبوتية ومستخدميها ، وأمام هذا الكم الهائل من الخدمات المتنوعة التي يقدمها . ارتفعت وتيرة “هجرة الرواد” إلى فضاءاته وعوالمه ، وأصبحوا غير قادرين على صد كل أشكال الإغراء الذي يمارسها عليهم ، حيث لا يفتأ كل من يبصر الرمز المميز للفيسبوك ، و المجسد في تلك الفاء اللاتينية ذات الرأس المعقوف والتي توحي كما لو أنها أم تضم إبنها وتحنو عليه .. تجعل المبحر ، وأمام توالي مرور هذا الرمز أمام أعينه ، يندفع إلى تجريب مغامرة الدخول إليه والتسجيل فيه ، والتطلع لاكتشافه وسبر أغواره .. فيرسو في شواطئه وينهل من بحر درره ليلتحق برواده ، وينسى أنه عارض الإكتتاب فيه زمنا ما …
إنه سحر الفيسبوك .. أو هكذا تكون البداية ، وعلى هذا النحو يتم اصطياد الزبائن الذين يصبحون بعد توالي الأيام ، وانغماسهم في الإبحار والدردشة ، في مرتبة المدمنين . ما يفتأون يتذوقون من حلاوته حتى يصيروا مرتبطين به ، تابعين له ، ومسلوبي الإرادة ، منبهرين بعوالمه ، ومرتبطين بأجهزتهم الذكية لا يفارقونها ولا يبتعدون عنها قيد أنملة .
حتى أن بعض المهتمين بقضايا التواصل الإجتماعي الرقمية يرون ” أن مؤسسة الفيسبوك تستخدم تقنيات متطورة لتعزيز الإدمان النفسي لدى المشتركين كتلك المستعملة في نوادي القمار و دوائر الرهان ” . فيصبح من الصعب على المشترك التوقف عن استخدام الفيسبوك ، أو الكف عن الإبحار في منشوراته .
— إن اعتماد الفيسبوك على شبكة الانترنيت ، وقيام تبادل مصلحي بينهما ، يجعل مختلف المواقع ، سياسية كانت ، أو اقتصادية أو تعليمية أو إجتماعية أو غيرها ، تسارع في إيجاد حيز لها داخل فضاء هذا التطبيق ، و تفتح حسابات لها فيه ، لتيسر التواصل مع أعضائها ومع الباحثين عن المعلومة ، وتعرض كل القضايا التي تدخل ضمن دائرة اهتمامها لتكون في متناول الرواد والمبحرين والمهتمين ..
فالإعلام بكل أصنافه ، استفاد من الفيسبوك ، وأصبحت المعلومة تصل إلى المتلقي بسرعة فائقة .. فما يلبث أن يقع الحدث حتى يكون موثقا بالصوت والصور .. ومعززة بالحوارات وبكل متطلبات التعريف به والإحاطة بحيثياته . فيصبح إثر ذلك مادة إعلامية صالحة للإستهلاك في آنها ، محققا بذلك السبق الإعلامي مقارنة مع الوسائل الإخبارية التقليدية …
كما أن ميدان التعليم ، هو الآخر بات من أكثر الميادين استعمالا لتطبيق الفيسبوك ، وبشكل ملفت ، سواء عل ضوء علاقات الأساتذة بطلبتهم وتلاميذهم ، أو في إنشاء مجموعات تواصلية ومنصات لتقاسم المعلومات والإنجازات والوثائق .. أو للأخبار بالمستجدات .. أو في استثمار إمكانياته لتسخيره لخدمة التعليم عن بعد .. أو الحوارات المباشرة ، والندوات التفاعلية (ندوات الفيديو المباشر ) ..
إن هذه أمثلة فقط ، وغيض من فيض ، ذلك أن كل الميادين والمجالات الحيوية تعتمد في عرض خدماتها وإنجازاتها على الفيسبوك .
بل هناك من أصبح يقر ، أمام الإنتشار الواسع ، والتطور السريع للتكنولوجيا الرقمية والبصرية على الخصوص ، بأن الثقافة الرقمية أصبحت بديلا عن الثقافة الورقية التقليدية والتواصل المباشر ، ومعوضة لهما .
هذا التطور السريع الذي تعرفه الرقميات عموما ، أنجب مفاهيم ومصطلحات جديدة مرتبطة بهذه الثقافة البصرية الرقمية ، وبواسائل التواصل الإجتماعي ، وعلى رأسها الفيسبوك . ولعل من أبرزها ، مفهوم الإفتراضية ، الذي عم استعماله على نطاق واسع ، وشمل كل أوجه التواصل والحياة .
فاصبحنا أمام كم هائل ومتنوع من الإفتراضيات ، تشمل كل المجالات والحقول :
فبرزت إلى الوجود العلاقات الإفتراضية ، والأصدقاء الإفتراضيين ، والنقاشات الإفتراضية ، والقيم الافتراضية ، والحب الإفتراضي والزواج الإفتراضي ، والحفلات الإفتراضية . وغيرها …
غير أنه وبالمقابل وأمام الحديث عن محاسن الفيسبوك وايجابياته ، وما أسداه من خدمات للبشرية سواء تعلق الأمر بكل أشكال التواصل وتقريب الناس في ما بينهم ، أو الأخبار والإعلام أو تقريب الإدارة من المرتفقين ، أو تيسير عمليات ولوج المؤسسات العلمية والجامعية والتعليمية .. وغيرها من خدمات المرافق العامة . أو مساهمة الفيسبوك وبشكل فعال في تسريع التحولات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية لدى عدد من الشعوب .. ولعل من أهم ثمارها اندلاع الثورات السياسية ، التي عصفت بأنظمة سياسية كثيرة ..
أمام هذه الواجهة المضيئة والمفيدة ، التي ساهم في إرساء دعائمها الفضاء الأزرق .. هناك آثار سلبية لا تقل خطورة وأهمية وقيمة بالنظر إلى الإيجابيات ..
لقد أجريت عدة دراسات على عينات من رواد الفيسبوك ، تتكون من شرائح عمرية مختلفة ، وحاولت معرفة ورصد الآثار الإيجابية والسلبية لمواقع التواصل الإجتماعي على هذه العينات من الرواد ، فجاءت النتائج مخيبة ، وأكدت بالخصوص على خطورة الآثار السلبية التي تنجم عن الاستخدام الكبير والمفرط ، والعشوائي للفيسبوك ، من دون مراقبة أو ترشيد لهذا الإستخدام .
هذه الآثار السلبية مست كل مناحي الحياة الإنسانية …
فقد زاد الفيسبوك من انعزال الأفراد ، وانزوائهم في دوائر مجالية ونفسية ضيقة ، وقضائهم أوقاتا مهمة بعيدا عن المعاشرة الحقيقية للأصدقاء ، والأسر ، والتواصل معهم واقعيا .. وتفاقم الأمر حتى أصبحت تأثيرات هذه الظاهرة المسماة .. ” الانزواء الإجتماعي.. أو الانفصال الاجتماعي ” ، تظهر بين كل رواد الفيسبوك وداخل مختلف الفئات العمرية دون تمييز ، ولو بدرجات متفاوتة .
إلا أنها تتخذ مقاييس أكبر وأخطر لدى الأطفال والمراهقين . حيث تؤثر على نموهم الحسي والعقلي والنفسي ، والمهاري ، نظرا لغياب ممارسات حركية وذهنية واقعية .. وملء كل الأوقات بالإبحار والبحث عن كل معلومة جديدة أو قديمة .. وارتيادهم لمواقع وصفحات لا تتناسب ونموهم الإدراكي والمعرفي والسيكولوجي .. كالمواقع الإباحية أو القمار أو الإجرام ، وغيرها من الصفحات التي تلحق بالمبحر اليافع أضرارا على نموه العقلي والنفسي .. مقارنة مع باقي الفئات العمرية .
أما عند الراشدين ، فان تفشي ظاهرة الانزواء الإجتماعي ، تجعل تأثيرها يتوسع أكثر ليصيب إضافة إلى المبحر ، أفراد الأسرة والمحيط العائلي ، بل قد يؤثر حتى على حياتهم الزوجية ، والعملية .
ولعل أهم ما يميز سلبيات استعمال الفيسبوك كذلك :
– تقلص مستويات الحميمية والخصوصية وتوسع دائرة العمومية في الإطلاع على أسرار الرواد .. وانفتاح البيوت على مصراعيها أمام عدسات الهواتف الذكية لنقل كل صغيرة وكبيرة إلى حوائط الفيسبوك وصفحاته ..
– اتخاذ الفيسبوك مجالا لنشر كل مظاهر الحالات النفسية والإجتماعية التي يكون عليها الرواد من أفراح وأتراح .. ونجاحات وانكسارات وفشل ..
– تنامي ظواهر التنمر والقذف والسب والتهديد والوعيد بين الرواد ، وأحيانا من طرف تنظيمات إجرامية ..
– سوء استخدام قيمة الحرية بكل مستوياتها .. في التعبير والرأي والنشر والنقل وغيرها ..
– هدر الزمن في الإبحار وتزايد الإرتباط بالآلات الذكية أكثر ، وإهمال مشاريع وواجبات وقضاء أغراض وتأجيلها الى أوقات لاحقة ، فتتراكم بعضها على بعض ويصعب إنجازها بعد ذلك ..
– تراجع الأنشطة الفيزيقية والرياضية وكل ما من شأنه أن يدعم الصحة البدنية والعقلية والنفسية للشخص .. وتأثيرها على كل مناحي حياته …
– تراجع القيمة النفسية للاشتياق والحنين إلى الآخر الغائب والبعيد ، نظرا لإمكانية التواصل معه في كل لحظة وحين ، متخطيا في ذلك قانون المسافات الحقيقية والنسبية ، والنفسية والإجتماعية .. كما أن رؤية الآخر الغائب أو البعيد مباشرة أثناء التواصل معه يقلل وبشكل كبير من منسوب هذا الإشتياق .. ويصبح الأمر كما لو أنه بين ظهرانينا ..
– إغراق المبحر بسيل عارم من المعلومات الصحيحة منها والكاذبة ، والمجهولة المصدر .. فيؤثر هذا الكم الهائل من المعلومات التي يستقبلها ، وبصورة دائمة ومستفزة أحيانا ، على عقله ووجدانه ومستواه المعرفي . فتجعله لا يفرق بين الحقيقية منها والزائفة ، وتضعه في حيص بيص من أمره .. مما يستوجب عليه أخذ الحيطة والحذر ، وضرورة تمحيص المعلومة والتأكد من صحتها بمقارنتها مع ما تنقله مواقع أخرى ذات مصداقية .. وباستعمال ذكائه ورصيده المعرفي ، أو الاستعانة بمن لهم الخبرة في هذا المجال ، لمساعدته في الإنتقاء والتصنيف ، حتى لا يسقط ضحية الإعلام الكاذب .
إلا أن هذه الدراسات وغيرها ممن أثارت مسألة سلبيات وإيجابيات وسائل التواصل الإجتماعي عامة والفيسبوك خاصة ، وبالرغم من سردها وتبويبها لمختلف هذه السلبيات وآثارها على الرواد ، إلا أنها لم تجزم في الطريقة والكيفية التي يتم التعامل بها مع السوشيال ميديا بصورة واضحة وملموسة .
كما أنها لم تقر بضرورة التوقف النهائي عن إستعمال الفيسبوك ، ولم توص بالقطع معه ، بل طالبت فقط بتقنين التعامل معه وتنظيم استخدامه ، والبحث عن أنجع السبل للاستفادة من إيجابياته ، وتجاوز المخاطر والآثار السلبية المترتبة عن الاستخدام العشوائي له …
Share this content: