
جاءتني السيدة الثقافة تسأل عني في بيتي المتواضع ،وقد اختارت لنفسها الوقت المناسب..
ولم يكن قدومها إلا خفية..وهي تمتطي سيارتها الفاخرة..
وقد اختارت لنفسها من بين الأثواب الراقية ما تتيه العين في زكرشته ،وذاك ما يليق بمقامها الكبير و الكريم كسيدة محترمة، لها مقامها الأميري،ومكانتها الاعتبارية الكبيرة بين العقول الراقية والعادية.. وعبر تجسيد خيال صورة لمثقفة من الطراز الرفيع عبر ديارنا،التي تعيش فصولا ومواسم تمجدها عبر ملصقات وجداريات وصباغات وألوان ومكياجات ..لذلك ؛فإن السيدة الثقافة رفيقة العمر للسيد المثقف ؛هي غالية المقام.. باهظة حياتها الأسطورية..و بكل خيال في ما تملكه من جواري محظية وبمقاس غالي من الرموز و الأثمان..
ومن يقدر على مجاراة صورة الثقافة تلك ،ورمزيتها وملكوتها العظيم.. يا ابن أمي في كل زمان ذهبي تعيشه فوق السحاب..!
وهاهي ؛وقد تعطرت بأزكى العطور الباريسية.وغيرت كل شيء قديم.ولبست لها من السندس والديباج والحرير كي تبدو في الصورة الوجودية ؛من ملائكة الرحمان..!!
تغير وجه الثقافة في تلك الأمسية؛ وسط رهط من الوجوه الصفراء والشاحبة، بفعل تأثير الأضواء الكاذبة،وبصباغة ومكياج لا قبل لنسوة المكان به،وصارت بوجه يثير لها كل العيون المتشوقة، لرؤية لما تفعله الصباغة في تغيير الصفة. وتزيح كل البقع السوداء، والخطوط والتجاعيد أمام سلطة المرآة في هذا وذاك الزمان،وعلى استمرار تواجدها في كل منزلة ومقام ..
وأنا الذي ألفت أن أسامر سكون الليل وهدوئه؛ في وحدتي وعزلتي التي أصنعها..وصدق من قال من الكتاب الأشداء ((معرفتي في حريتي ..أما أنا فأقول :معرفتي في عزلتي ..!))
وموت ظرفي لكل ذبذبة فوق هذه الأرض، التي ألفت السكون والموت منذ زمانها البعيد..!
سمعت صوت محرك خفيف لسيارة يتوقف أمام محلي المعلوم. وما هي إلا لحظات تمر حتى رن الجرس. إذ أنا وقد تساءلت واندهشت، فمن يطرق بابي في هذا الوقت المتأخر من الليل..؟!
وما أن فتحت الباب ؛حتى رمقت عيناي سيدة رائعة الجمال؛تثير الثيران بلون فستانها الأحمر ،كما يقول المثل الفرنسي : le rouge attire les taureaux/في أبهى حلة وزينة ،تلوح لي بيدها وتبتسم ..وبسرعة ؛فتح لها السائق بلباسه الإداري الرسمي برفق الباب الخلفي..!
وبالكاد يطأ كعبها العالي الإسمنت.. ! سمعت صوت موسيقى ورقص ؛ بل تخيلته على إيقاع شعري، بتعبير أدبي عميق، من لدن الفيلسوف الفرنسي بول فاليري
صدمت ثم صدمت ثم صدمت، وأنا أستنشق رائحة عطر باريسي ،ما سبق لأنفي أن أتيحت له فرصة كهذه ،كي يستنشق رائحة زكية تفقده توازنه..ويكاد يغشى عليه، بدهشة ،وهو يجاري ما تفاجأ به.. ولم يكن في الانتظار ولا في الحسبان.وكأن لسان حاله يردد جملة شعرية لمحمود درويش إذا كنت تريد لقائي فلا تنتظرني..!!
مدت لي يديها كي أسلم ؛لكنني لهول اللقاء تهت أفكر في عنوان لقصيدة في الطريق أكتبها عن هذه الزيارة الخالدة ،للسيدة الثقافة في بيتي ،وفي غياب رفيق عمرها السيد المثقف لظروف أجهلها ..قد تكون وعكة صحية مفاجئة أو خطأ في البروتوكول المفاجيء ،فلا أدري ..المهم ؛لقد جاءت ،كي تعزمني لأمسية في أرقى فندق بالمدينة المعلومة بدون اسم ولا صورة ولا عنوان ،وذكرتني بآسمي ،وإنه لشرف لي:” أنا الثقافة أن تشاركنا أطباقنا بما تراه يناسب مقامك الكريم ..!!
كان لا بد من شيء من الوقت ..كي أجمع أشلائي ..كي أبحث عن ريق أبلل به فمي؛ الذي جف لهول الصدمة ..ولما أعدت لنفسي توازنها وتشجعت ..!
اعتذرت للسيدة الثقافة ،لأنني فقير ولباسي على قد الحال..!
وصرت أردد مع عبد الهادي بلخياط بعض المقاطع من رائعته” قطار الحياة” قلت ليه أنا كنبغيك
شاف فيا شوفة العدو
وقال ليا بزاف عليك
و شوف أنا فين و انت فين
يبان لك الفرق يا مسكين
الصدمة كانت قوية
حرقت مشمومي فيديا
وطاح رمادو فوق رمادي
فين الشباب؟بهات وزال
فين الجمال؟عيى وذبال
وأنا سوى رجل بسيط ويعشق البساطة..والعزلة.. !
وتعميه أشعة أضواء “البروجيكتورات” الناصعة ..!
ويتلعثم أمام الجلسات..والزفة والعمارية والكاميرات.. !
ولا محل له من الإعراب..!
وهو ألف التواصل العادي وتقاسم الأفكار بدون لغة الخشب..
ويكره كل الرسميات والبهرجات والشكليات..!
وأنا شبيه بالشاعر صاحب أظافر قطة البحر ،والحي الخطير والزوايا الحادة ميلود بنمحمود..!
حين يقول :
ولدت لوحدي بالحي الخطير بدون إخوة..!
وكان علي أن أمتلك مخالب قطة البحر..!
كي أصطاد السمكة الفضية من بؤبؤ الحياة..!
لذلك؛ ألفت أن أتواصل من وراء حجاب إلكتروني.. وأتقاطع مع الفقراء من الأدباء مثلي، وأجالسهم في مقاهي الشعب..!
دلفت السيدة الثقافة نحو باب سيارتها الفاخرة، وبقيت متسمرا في مكاني، والسائق المسكين يحمل قفطانها من الخلف حتى لا يعانق بجسده أتربة الأرض ..!
تحركت الثقافة تجوب شوارع المدينة، لكي تأخذ لها صورا تذكارية ،في أماكن معلومة تنشرها كحدث ومناسبة لها بتلك الديار .وفي انتظار حضورها الفعلي لقطع شريط تدشين مقرها الجديد .وبحضور وجوه ووجوه تتسلل لواذا، كي تظهر في الأمام مع السيدة الثقافة. ملكة جمال زمانها في تلكم الديار ،التي تعطي للسيدة الثقافة مكانتها التي تليق بمقامها الكبير..!

Share this content: