
اقترب عيد الأضحى الأبرك الذي يمثل للمسلمين شعيرة من الشعائر الدينية التي تسبقها أياما معدودة، يتراحم فيها المسلمون و يتكافلون فيما بينهم ،ويعين بعضهم بعضا،ويجود كل ميسور يريد أن يتقرب إلى وجهه ربه عز وجل،بما أعطاه الله من فضله وجاد عليه من رزقه على الأيتام والفقراء والمساكين والمحتاجين وكذلك الفئة التي تستحي أن تمد يدها.
وهؤلاء يتخذون التعفف سبيلا لهم رغم الحاجة ، وكذلك فكر جعفر صحبة دحمان وعبد الإله في زيارة خاطفة لناصر بمدينة الدار البيضاء، بعدما أخبروه بمجيئهم صباح هذا اليوم الثلاثاء،ناصر هذا فتح الله عليه وأمسى من الأثرياء. تزوجت بناته كلهن برجالات أعمال أثرياء بكل من قطر والإمارات، فاشترى لنفسه فيلا فاخرة بحي كاليفورنيا ، وسيارة فخمة وانغمس في ملذات وشهوات الحياة الدنيا التي لاحد لها من أكل وشرب ولباس وسفر وحلي ومفروشات وهلم جرا..بعدما كان في وقت من الأوقات سوى موظفا بسيطا بإحدى شركة الأسفار..وبين عشية وضحاها صبت عليه غيمة من السماء بفراشات من ذهب و فضة ، و صار من أغنياء البلد.
لكن صداقته بجعفر الفنان العاطل عن العمل لن ينساها ، فيا ما جلسا لساعات طوال.. ويا ما اشتركا في الحلو والحار من الأيام ..واليوم ها هو جعفر في حاجة لدعم مالي من جانبه ، وها هو اليوم في طريقه إليه ، ما دام قد وعده فيما سبق بالعطاء حين يقترب العيد،وليأتي في زيارته في أي وقت شاء، شريطة أن يخبره بالمجيء ..
وكذلك كان ،لكن أف لهم من أصحاب آخر الزمان ..اتصل به ورتب معه اللقاء ليشد إليه الرحال لعله يجود عليه مما أتاه الله من مال ، ونعم لا تحصى ولا تعد .!!؟.. بعدما عمد صاحب جعفر إلى طلب سيارة خاصة من أحد أقاربه وبالكاد جمعوا بعض الدريهمات للبنزين..وجلهم يعيش عالة على أسرهم في غياب شغل قار إلا من بعض المساعدات من أصدقاء يعرفونهم زمان.
وصلوا إلى الدار البيضاء ومن شدة الفرح أراد صديقه الوفي جعفر أن يبلغه عن وصوله ، لكن الهاتف ظل يرن ولا مجيب ، ظن أن ناصر في الحمام أو منهمكا في شغل ما..وعندما سيعود لهاتفه سيجد مكالمته ،وفي الحين سيتصل به.. بعدها فكر الثلاثة في الجلوس في إحدى المقاهي ..ومن أين لهم ثمن القهوة يا ترى.
– فلا بد أن نسأل عن الثمن قبل الجلوس قال ناصر..وإذا كان ذلك فوق طاقتنا لنجلس في ساحة النصر بجوار الحمام ، ونطلب لنا قهوة الشعب من الغلاي ..وهكذا؛ لا غلاء عليك يا مسكين .
ثمن القهوة يلهب الجيوب وخاصة وسط مدينة كالدار البيضاء.. ولا يجلس في تلك المقاهي إلا أصحاب الجيوب الدافئة أو من له سعة في الرزق..احتسوا قهوتهم ولا حديث لهم إلا عن ناصر الذي أمسى خارج التغطية، ولربما إشارة ودليل منه بأنه غير راغب في لقاء وجوه الزلط التي تذكره بأيام القحط،لما كان يعاني ويكابد الأيام من أجل العيش .. وظل جعفر يتصل ويعيد الاتصال بطلب من مرافقيه حتى منتصف النهار..و لعلهم تأكدوا في الأخير بأنهم جاؤوا للمكان الخطأ..بحثوا عن أقرب مقشدة وملأوا أمعاءهم بالطون و الكومير وشيء من الزيتون والحار كأرخص وجبة فكروا فيها.
تحركوا بعدها يجرون الخيبة وراءهم قافلين ، وإذا بجعفر يقترح عليهم ،اقتراحا جديدا، أي التوجه صوب المحمدية ،حيث يتواجد صديقه القديم الذي قضى صحبته هو الآخر مدة لايستهان بها..وعرفهم به،إنه الأديب المعروف عمار الجويعان ، الذي انتقل حاله من الفقر إلى الغنى بين عشية وضحاها ، ولا يعرف أحد سبب قفزته تلك ، من كاتب وأديب بالكاد يعيش يومه، ويجد البقشيش لدفع ثمن قهوته وسجائره التي يدخنها بالتقسيط ..وهو الذي يراقب سوق الثقافة والأدب الذي يعرف الكساد طيلة السنة إلا من بعض المناسبات القليلة والنادرة التي يستغلها ، ليقدم بعض أعماله الأدبية والفنية لعله يحصل على دعم ما ، من هذه الجهة أو تلك …ولا يحصل على مستحقاته إلا بعد أن يمل الانتظار .. وقد يتصل بهذا وذاك..ولربما اقتنع أخيرا بأن الدعم أصبح عصيا على الطلب فنسيه أو تناساه.
وكان وصول الكتيبة للمحمدية عصرا..اتصل جعفر بصديقه الحميم ، الذي ظل يقدم له عدة خدمات فيما سبق، ولقد جاءت الفرصة الآن ليعيد له جميل صنيعه ..وكثيرا ما وعده سرا؛ بأن له فرصة ذهبية ستغير حياته نحو الأفضل لكنه لم يبح له بذاك السر، رغم إلحاحه الطويل، حتى التقى معه في وسط المدينة صدفة بعد فراق ورحيل، وجلس معه في المقهى الموعودة التي كانت المحج الوحيد لهما منذ سنين ، وقد تغيرت لغة أديبنا ولكنته ولباسه ومشيته وسيجارته وهاتفه ..ووعد صديقه الفنان العاطل بالدعم المادي متى قدم عنده للمحمدية ،وفي أي وقت شاء..!!؟ وكذلك كان ، رد على مكالمته في المرة الثانية ، بعدما اعتذرت له زوجته في أول اتصال به، على أنه في الحمام وريثما يخرج سيتصل به.
– ألو..ألو..
– السلام عليكم ، من معي ؟
– صديقك جعفر.
– أهلا أخي مرحبا ، كيف حالك ؟
– الحمد لله على كل حال، اسمع لي جيدا إني لدي طلب عندك أخي عمار؟
– تفضل مرحبا ..الله يا ودي ..حنا في الخدمة.
– أنا الآن بالمحمدية، وقد أتت بي الظروف القاهرة والأقدار سأحكيها لك ريثما نلتقي ، وليس في جيبي ولو درهما أبيض وليس لنا حتى ثمن البنزين للعودة إلى البيت .
عرف حينها عمارالجويعان بأن صديقه جعفر في ضيق وشدة ويحتاج لبعض النقود، ويحتاج لمن يفرج عنه كربته .. لكن المال لما يصب من السماء على بعض أصناف من البشر.. يزدادون فقرا جديدا على فقرهم القديم..ويتجاهلون أي معروف وجميل قدم لهم في وقت من الأوقات..لذلك بدأ يرسل له جملة من الأعذار..مستعملا لغة الميم حتى يصده عنه..وحتى يبلغه رسالته عبر الأثير…
نعم كنا أصدقاء لما كنت أنتمي لزمرة الفقراء…نعم في زمن الفقر والحاجة.. وكنا نتعاون فيما بيننا على تقاسم السجائر وحتى طلباتنا بالمقهى تختصر على براد شاي نتقاسم ثمنه ..وكنا..وكنا..واليوم أنت من فصيلة وأنا من فصيلة أخرى ..ورحم الله من عرف قدره ..عامر الجويعان لم يبقى ذلك الأديب والفنان الذي يتعب من أجل اللقمة لتهدئة أمعائه …فحياة الغنى لها مواصفات وأخلاق ورواد .
قفل هاتفه معلنا عن اقباره لاسم جعفر،الذي كانت معه حكايات وحكايات في زمن دفن في الماضي،ورحم الله الكاتب المغربي عبد الكريم غلاب الذي اختار إحدى رواياته “دفنا الماضي ” كعنوان جميل .تحكي عن صراع المغاربة مع المحتل عبر وجهة نظره للتاريخ الشعبي.
قال جعفر غاضبا : لا صديق في هذا الزمان إلا جيبك.وكما يقول المغاربة ” عيب الراجل جيبو “
أخرج صديقه ورقة من فئة مائتي درهم وهو يقول لجعفر:
– حملت معي هذه الورقة تحسبا لأي طاريء.
– لواحد يدير معاه ديما على حساب الوقت.
وبعدها تحركوا صوب أول محطة للبنزين ليتمموا رحلة الفرسان الثلاثة التي تعلموا منها الكثير..ولسان حالهم يقول : صدق المغاربة في أمثالهم لما قالوا :
صاحبك هو جيبك.
وخوك خوك لا يغرك صاحبك.
Share this content: