
قصة ذكرتني بقصيدة بودلير ” إلى العابرة”
رأيتها صدفة هناك من البعيد البعيد جدا ؛وهي متواجدة ظل لها تمشي هناك..إذ كانت تمشي في صمت وهدوء وتأن مقصود،بجانب حائط الثانوية القديمة التي كنا نسميها في زمننا البعيد “بالبارد”، وإلى اليوم لم أجد جوابا عن هذا الاسم الغريب و الغامض لهذه المؤسسة التعليمية..وتعتبر إلى حد ما من مخلفات فترات عهد الاستعمار والاستقلال.مثلها مثل حي البيوت و الفيلاج والكنيسة ومقبرة النصارى..
– أنا الذي لم أعد أراها بوجهها الطفولي من زمان بعيد..!
– وذاك ليس بالزمن القصير وبرب السماء ..!
بعد أن انقطع بها حبل الزمان الفوسفاطي ذاك، وهجرت المكان على طول، ومن يدري ربما تغير الحال،وتغيرت ملامح وجه ذاك الإنسان..
ففي نهار ما،وبصدفة عبور تلقائي؛ وفجأة؛وأنا أترجل أرضا شبه عارية من صور المدنية ..هناك في شبه شارع من الغبار و الأتربة والأحجار التي تصادفك في زمن اللاتنمية بمدينة وجدت كي تعيش بدون هوية إلا بآسم التراب والقطار والانتظار..وعبر إحدى الشوارع الشبه محفرة هاته من جهة اليسار،رأيتها ماشية.وبالكاد يستقيم كعب حذائها العالي ويعينها في مشيتها..
وما ألفتها على تلك الحالة -وكأنها ليست هي ،هي..التي رسمت صورتها في ذهني لعقود من الزمن .. إنها” ليلى الشمس” في ذاكرة المدينة الحفرة والقبر لكل أمل وبزوغ عهد جديد..
ولي كأي كاتب تحرر من عقد كثيرة ؛ذاكرة التاريخ وذاكرة الزمان والمكان وذاكرة المشاهدة والبصر..!وما أحمله من الصور في ذاكرتي البصرية.. واليوم ؛أكون قد بصرتها هناك من الجهة الخلفية الأخرى من الشارع الكبير..-هناك من بعيد..-وما برحت قد تخيلتها دائما بنظرة فيلسوف وجودي يسائل كل شيء شيء،كي يناقش حقيقة وروحها..والمشاعر الوجدانية الرهيفة لشاعر مثلي ينوب بصوته عن هذه المدينة المهمشة..
-لأننا نحن الشعراء نبحث دائما على شيء جميل يثير فينا احساساتنا الغريبة ..
-وظننتها دائما؛ في صورة للوحة من صنع طبيعة الخالق الديان..
وهي تحمل سرها فوق جسدها الرشيق..
وفي تناسق متكامل الأوصاف، من ألوان الزينة..
ثياب متناسقة تعطيها جمالا فوق جمال إضافي لجمالها الكبير..
كلها آيات من السحر والجمال الخلاق..
هي،هي،و لربما قد تعرفني بالطبع بآسمي،لكن في وجه صورة مراهق من زمننا البعيد..سواء كان ذاك في جو ماطر أم تحت سماء تحجب شمسها بعض الغيوم..
وأنا كذلك أعرفها كعاهلة في مملكة النحل،بهمة فريدة من نوعها..وبما تملكه من مكانة وترف عيش في ذاك الزمان..
وأنا القادم من عالم البدو ،والحامل معي عشق الفضاء القديم للبادية..ولغة بقاموس من ثقافة الصبار والصهد و الأتربة والأحجار وقطعان الماشية والطوق والنسيان..
أما أنا حينذاك،فقد كنت أمشي في الجهة التي أرتاح فيها رفقة ظلي الثاني..!
وهي التي لربما رأتني جد سعيد كما تخيلته..وباركت لي الطريق..!
وأنا أعيش زماني الجميل..!
وأنا في بزوغ فجر حياتي..!
وفي زخم أيام شباب جديد..!
مزهو بريش طاووس من ما أحمله معي من صباغة من الألوان..!
حياة جديدة قد كانت شاهدة عليها،وهي تزهر بكل أصناف المجد الآتي من بعيد..أيام ما فتئت تضمني..تحضنني لصدرها الدافئ بشوق وعشق وحنين..!لقد كانت تمشي لوحدها ويتبعها ظلها الجميل..!لقد كانت مصدومة في ملتقى مدارة أحزان تعيشها في صمت..إذ كانت ما تزال تخطو خطواتها تبحث لها عن نجاة..وتمشي الهنيهة حينما تطوي أيام شبابها ببطء..وهي التي لا تدري ما تخفيه لها الأيام.من أخبار تتسارع بسقوطها على وجه اللوح المحفوظ..!ولربما قد تكون قد فقدت للتو والدها أو والدتها..أوما تزال تحمل نذوبها القديمة في صدرها عن رحيل أخيها صخر..!كم مرة رأيتها في صورة حسناء المدينة في زمانها الذهبي،وهي تمشي الهنيهة..قافلة صوب المحطة..في طريقها للبيت القديم..وكم كان للعشق من ذكرى جميلة..!وكم ألف الزمان أن يحمل لنا معه من صور تبقى حية لا تموت مع السنين..!وظل الوجه الأنثوي حاضرا على ضوء شموع يحمل معه صورا من ذكريات جمالها الكبير..!والتواجد السحري في أي مكان كان،تطأه قدميها حتى ولو كانت طاولة منسية من بين طاولات فصل دراسي، تشهد على رسائل من ذاك الزمان المفقود..!وحتى وجه طاولة الدرس و بالصدفة تحولت فضاء للتعبير عن لوعة العشق ومحطة من محطات رسائل العشق والغرام..!

Share this content: