حجرة لالة العالية.. !!قصة قصيرة- عبد الرحيم هريوى – خريبكة اليوم -المغرب

تلاشت الصور في خيالي كزجاج متطاير  وهمت بعيدا.. بعيدا جدا .. أبحث عنها وسط خريف شديد تطايرت أوراقه عبر رياح عابرة للزمان.. الآن تملكتني لحظة كتابة جامحة وانطلقت مسرعا نحو الماضي المدفون . أنبش تحت أحجار كبيرة حولها السيل فوق ربوة عالية ببلدتي هناك بشعبة عمارة “حطان حاليا ” تحت حجرة لها اسم .. !!

–  من سماها يا ترى..  ؟؟

–  أي جهل يحكمنا نحن ” قبيلة بنو حجر” إنها عاشت مع التاريخ الحزين لبني الإنسان الفاقد لكل معالم الذوات الحية ..الواعية بوعي البشر ؟؟

– هل أقامت قبيلتنا ” العقيقة ” لتلك الحجرة العالية على المنحدر ؟؟

– لعلهم في زمنهم  ذاك ، التفوا حول حجرتهم ” كهبل ” وأقاموا شعائرهم وطقوسهم حتى لا ينزل عليهم غضب قبائل بنو حجر التي تنتمي إليها …زمان الحجر عاشته عقول التراب في زمن مجهول بتلك الأرض..!! حملوا لها الشموع وعلقوا عليها التمائم ورشوا عطورهم، والحناء لتغفر لهم وترضى عنهم وتقضي لكل طالب مسألته.. !! عشنا طفولة الحجر .. المسح  والتبرك بالحجر.. والتجمع السنوي – الموسمي بالبكاء والنحيب على الحجر.. كلما مررنا على حجرتنا الضخمة هناك .. شاهدة على ماضينا ..شاهدة على جهلنا .. غبننا .. عارنا.. صمتنا .. جمعنا.. سحقنا..!!!!؟؟؟؟

كلما اقتربنا منها أصبنا بالذعر بأنواع القلق والخوف  النفسي .. تتحول حجرة لالة العالية إلى هيشة تبلعنا..الجن وضعها هناك لا تستطيع أكبر حاملة أن ترفعها من مكانها .. إنها أمست من الآثار بالمنطقة ومعلمة لا يحيد عنها البصر..ولا يقترب منها الصغار إلا صحبة أمهاتهم كي  يزورونها و يتبركوا ببركتها وبركة الحجر..!!

أي حجر هذا الذي تحولت العقول البشرية حجرا صلدا قبله..!! العقول في المنحدر قبل الحجر..حجرتنا عمرها أكثر من قرن من الزمن ، ظلت طيلة عقود محجة لكل مضيوم حزين مغلوب مقهور مظلوم.. ليشكي لها أوجاعه وآلامه وأحزانه من بني الحجر..

مررت بخيالي بالقرب من حجرة التاريخ المنسي، وأنا أمشي في المنحدر..  الشعبة المنخورة بالغيران الفوسفاطية ، الشاهدة على أقدام أجدادنا فوق تربتنا تلك…!!

توقف خيالي مرغما هناك قرب مسجد لمحته عيناي وأنا طفل صغير أتبع أمي كالظل.. دخلته في يوم من الزمان . رأيت كومة من الألواح قرب  شيخ عتي !! يظهر شيب ناصع البياض في لحيته وشعره . أقبل على قرن من العيش أو اقترب منه .. ركزت نظري على كل ما يحيط بهذا البيت .. حصير قديم ” تسريح”  بلون مائل للأصفر ومحبرة من المسخ و قلم من القصب.. سرعان ما أخرج ورقة وبدأ يكتب بسرعة فائقة تمائم “سبوب” كجهل يضاف لجهل سابق ينتظره جهل قادم .. الطب غير معترف به كعلم في  زمن جهلهم و” السبوب” بمسخه الأسود يداوي .. يعالج كل الأمراض.. يوضع في زليفة تحت ضوء النجوم والقمر حتى تتبلل الأوراق و يتحول الماء إلى بحيرة صغيرة سوداء ويشرب المريض منها حسب وصفة الفقيه و سيشافى من علته عاجلا أم لاحقا…

نظرت حولي  بعيدا بعيدا وتأملت عار الجهل و ربطته بكومات الحجر.. فإذا هو ظلام كثيف  ينبعث من كل مكان.. فإذا هي عواصف هوجاء تغطي كل البيوت ولا يظهر لها أثر..حجر على حجر..حجر بقربه حجر..ينكسر الحجر وتغطيه الأثربة  و ينقله السيل من الوادي “بوغراف” إلى السهب نحو الترعة..!! ويبقى الحجر نفسه معلق بعقول أشباه البشر..!!

ذاك الفقيه.. بذاك الدوار.. بتلك الملامح ما زالت تحمله ذاكرتي  ولم تخطئه يوما .. جالس جلسة الوقار..لا شيء يهمه في دنياه..لا زوجة له..لا عقب ولا  نسل..مقطوع من جذع شجرة .. بعيد بعيد عن أرضه ..عن موطنه.. لا يزوره زائر.. لاحبيب لا  قريب ..ألف السكينة وألفته .. ذاك الخشوع وسط بيت الله ..ناسكا ..عابدا.. زاهدا .. ذاكرا..حامدا لأنعم الله.. !!!

في ليلة باردة برودة الشتاء .. حزينة .. مؤلمة .. مؤثرة.. مفجعة .. جاء عنده رجل وبات الليل معه .. في يوم مشهود و حزين للتاريخ  و للقبيلة !! صباح لا شبيه صباح.. صباح موت الغريب .. حملوه لدفنه في مقبرة بعيدة بعيدة عن موطنه..عن أصله ..عن جذره !!

–  من هذا الرجل الغريب الذي بات عند الفقيه ليلة البارحة؟؟

–  الناس ..السلطة .. المقدم..الشيخ.. القبيلة..الكل يريد أن يعرف حقيقته !!

– بكى الفقيه بكاء الخنساء على أخيها صخر!!

–  تألم الجميع لحال من يعيش الألم لوحده بعيدا عن كل بشر يعرفه

–  شرح..فسر..أوضح..الكل يسمع والفقيه يجهش بالبكاء..!!

– ابني عبد الله مات..مات المسكين..كان فقيها حاملا لكتاب الله..لم أره منذ عشر سنوات كاملة .. ظل يبحث عني حتى اهتدى لمكان  تواجدي

– نام معي نومة واحدة..رآني مرة واحدة..شممت ريحه مرة واحدة

– أيقضني وقد عسعس الليل

– أبي..أبي!!

– ماذا بك ،يا ولدي ؟؟

– لقد جاءني رجلا طيب المنظر والصورة  في منامي، وقال لي ” قم واقرأ لي القرآن ” ؟؟

– قلت في عجل” قم يا عبد الله واقرأ له ؟؟”

– فقام يصلي و يتلوا آياته حتى الصباح !!

-وبعدها أيقضني وهو يقول لي سأموت..سأموت يا أبي

– وجه رأسه نحو القبلة ..وضع يده تحت خده ثم فاضت روح ابني.. عبد الله

– مات عبد الله في صمت

مات موتة الغريب عن جحره عن عشه عن أرضه عن أهله عن من كان يناديه باسمه “عبد الله يا عبد الله !

– اللهم ارحمه برحمتك يا رب ووسع عليه !!

Share this content:

  • Related Posts

    الشاعرة المغربية سعاد بازي في سفر شاعري عبر الروح الباطنية..خريبكة اليوم – المغرب

    غدا أمنح عقلي حرية غدا أبني شرفة لكل زنزانة لتطل على الرصيف المحشو بالمشردين كشطيرة ” الأنشوان ” والزيتون غدا يتورد خد الحديث يُزهر الدراق من أكمامه غدا تساندني إن خيم الوجوم فوق مضاربي أو أنذرت روحي بالانحدار  اليوم سأمشي بصمت سليم بكل ما يحمل من ضجيج لن أشتكي شوكا لأنال  شرف العطر وأنا على ذمة الانتماء إليك اليوم وغدا ترتعد…

    Read more

    الشاعرة المغربية زهرة احمد بولحية تطل على قرائها من خلال اللوحة من ابداع الغالية شهرزاد -خريبكة اليوم – المغرب

    هل سألت نفسك كيف تنام.. وتترك الخوف ينتعل حذاءك، كجحافل الرخام.. هل سألت نفسك لم تحزن المنافي، وتضحك .. من بعدها أسرار الغبار .. كروعة الشروق، هل ستولد يوما، من مديح الحلكة .. والدروب هل ستخيط وجه المحار… متى ستعلق في أذنها هدنة… أو نومة استراحة.. الى حين صحوة النهار… ها قد جذبته الرعود الثقيلة. وخصلات الماء ، تؤجج روع البحار…

    Read more

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    You Missed

    سيكولوجية صورة البروفايل من خلال ظلال ثقافة رقمية..عبد الرحيم هريوى – خريبكة اليوم – المغرب

    سيكولوجية صورة البروفايل من خلال ظلال ثقافة رقمية..عبد الرحيم هريوى – خريبكة اليوم – المغرب

    بوح خاص بالشاعر المغربي أحمد نفاع عن ذكرى ميلاد في 15/06/2025..خريبكة اليوم – المغرب

    بوح خاص بالشاعر المغربي أحمد نفاع عن ذكرى ميلاد في 15/06/2025..خريبكة اليوم – المغرب

    فأي ثقافة نتمسك بها فلا للإنصات للغة العقل ولا قيمة للرأي الآخر فنحن نتكلم و نتقن كل اللغات .. عبد الرحيم هريوى – خريبكة اليوم – المغرب

    فأي ثقافة نتمسك بها فلا للإنصات للغة العقل ولا قيمة للرأي الآخر فنحن نتكلم و نتقن كل اللغات .. عبد الرحيم هريوى – خريبكة اليوم – المغرب

    القلم المحلي الأستاذ ” السعيد شنيك ” في صمت نجاة ..خريبكة اليوم – المغرب.

    القلم المحلي الأستاذ ” السعيد شنيك ” في صمت نجاة ..خريبكة اليوم – المغرب.

    الشاعرة المغربية سعاد بازي في سفر شاعري عبر الروح الباطنية..خريبكة اليوم – المغرب

    الشاعرة المغربية سعاد بازي في سفر شاعري عبر الروح الباطنية..خريبكة اليوم – المغرب

    حجرة لالة العالية.. !!قصة قصيرة- عبد الرحيم هريوى – خريبكة اليوم -المغرب

    حجرة لالة العالية.. !!قصة قصيرة- عبد الرحيم هريوى – خريبكة اليوم -المغرب