

” أظنه الحب “
كاتبة النص”سلوى_ادريسي_والي”
كنت أجلس متكئا على الحاوية المقابلة له،وكان هو يقلب داخل إحدى الحاويات ويختار أجود ما فيهاو يضعه في كيس كبير معلق على كتفه…لاأنكر أنه لفت انتباهي بطريقة تقليبه المميزة ، فقد كان يفحص الأشياء بعناية ويقيس قطع الملابس المناسبة له ويترك مالا يناسبه ،قلت في نفسي..”لو كنت مكانه لما تركت قطعة واحدة ..! لكنني اليوم متعب قليلا وليست لدي قوة لتقليب الحاويات…أنهى عمله وتحول الى الحاوية التي أتكأعليها ،فأثار غضبي واقتربت منه وقلت له : _ لهذه الحاوية مالك .التفت إلي بوجهه الأشعت الأغبر ، وشعره المجعد القذر ولم ينبس بكلمة واحدة،فلم أجد بدا من استعمال بعض العنف والقوة معه ،وفرض وجودي عليه لطرده من المكان ،فأمسكته من ياقة معطفه الملطخة بصمغ زلق لاأدري ما كان ،فانزلقت يدي ولم أستطع إحكام قبضتي عليه ، حينها التفت إلي وقال :_ لو كنتُ رجلا لما عاملتني بهذه الطريقة .انتباتني هستيريا من الضحك حتى بدوت كالمجنون ووقعت على الأرض،فلم يسبق أن حدث معي أمر مماثل من قبل،فأنا أستطيع أن أميز بين المرأة و الرجل من على بعد أميال ،لكن هذا الأحمق خدعني حقا،فبدأت أتفحص شكله وأدقق في ملامحه،هل هوامرأة حقا…!؟عيناها غائرتان لوزيتان،حولهما خطوط في كل الإتجاهات،وأنف كبير تملأه التآليل ،أتابع فحصي ولاشيء يوحي أنها امرأة ،مررت عيني على كامل جسدها،ثم ركزت بعناية على منطقة الصدر ، لكن حتى لو وجد ، فقد كان من المستحيل كشفه بسبب طبقات الملابس الكثيرة التي كانت تغطي بها جسدها،لكن في الحقيقة شيء ما في داخلي كان يقول أنها فعلا امرأة ، لا أدري ماهو ، لكنه شعور تملكني عندما نظرت إلى عينيها بسرعة خاطفة ثم حولت نظرها إلى اتجاه آخر ..أمرتها بالرحيل وعدم العودة إلى هذا المكان،فهو ملك لي،وأشرت بيدي إلى عشة في آخر الشارع وقلت : وذاك منزلي.غادرت دون أن تنطق بكلمة واحدة،وهي تجر ثيابها تحت أقدامها وكأنها تكنس الشارع،والغبار وبعض الأوراق تلاحق ظل ردائها المهلهل ، بينما كنت أراقبها حتى وصلت إلى نهاية الشارع واختفت بين المارة .لم أستطع النوم في تلك الليلة،أفكار تدور داخل رأسي وعصافير بطني تزقزق من الجوع ، فبسببها لم أتمكن من البحث عن طعامي داخل الحاويات كالمعتاد ، لقد اجتاحت رأسي تلك اللعينة ،وفي الصباح،كنت قد عزمت البحث عنها ، يبدو من هيئتها أنها تعيش في الشارع،حملت عصاي في يدي،وبدأت التجول في المدينة باحثاعنها في الأماكن المخصصة للحاويات وعند عتبات المنازل المهجورة،وفي محطة القطار حتى تعبت قدماي من المشي،ووصل جوعي منتهاه ،فقررت الجلوس وتسول بعض المال أو حتى قطعة خبز يجود بها علي أحدهم،فجلست على الرصيف المقابل للمحطة…وعلى الفور مددت يدي وبدأت أردد بعض الجمل التي اخترتها بعناية علني أنال بها عطف المارة …كان أغلبهم من المسافرين ،يمرون وهم يجرون حقائبهم ويرفعون رؤوسهم للأعلى،لم يكونوا يلحظون وجودي حتى،وبينما أناكذلك لمحتها ، لمحت ظالتي التي خرجت أبحث عنها وهي تغادر باب المحطة،كانت تحمل في يدها قطعة خبز وتقضمها بشراهة،قفزت من مكاني وجريت باتجاهها،لكني لم أنتبه لتلك السيارة القادمة باتجاهي فصدمتني،وعندما أفقت وفتحت عيني ،وجدتها تقف عند رأسي وهي تقول : – ها أنت قدانتقم الله لي منك أيها البشع لأنك ظلمت امرأة مسكينة ،إبق ممددا هنا إلى أن تموت.حاولت رفع يدي لألطمها على وجهها القذر،لكني كنت خائرالقوى ورأسي يؤلمني بشدة…حضرت سيارة إسعاف بعد وقت قصير كانت اللعينة قد غادرت خلاله ،لكنها ظلت تلاحق تفكيري .كنت أعيش حياتي بلا هم ولا تفكير ، أقلب حاويات النفايات وأختارمواقعها بعناية ، ولدي خارطة لكل أحياء المدينة الراقية التي كنت أرتادها ،فحاويات الفقراء ليست مثل حاويات الأغنياء ،وكذلك الأحياء والشوارع،وكنت في بعض الأحيان أدعي الإعاقة،إعاقة عقلية تارة ،وأخرى بدنية تارة أخرى لأتمكن من ركوب الحافلات بالمجان ،وهكذا كنت أقضي أيامي ، إلى أن باغثت حياتي ذات العينين الغائرتين،فأصبت بحمى التفكير فيها حتى هزل جسدي ،ولم يعد لحياتي هدف ، وصرت أعيش على أمل أن يجمعني بها القدر عند إحدى الحاويات .سلوى_ادريسي_والي
.jpg)
أفكار وتأملات بين ثنايا السطور؛
عبرقراءة لنص قصصي قصير”أظنه الحب..!” قرأت النص ببطء شديد. وأعطيت لنفسي المساحة الكافية، لكي تعطي في النهاية صورة أخرى يمكن للقارئ أن يستنبطها من هذا النص القصصي القصيرة والجميل..يمكن أن نحكم على النص من خلال بنائه، ومن حيث الموضوع والتناسق والخيال والمشاهد والأدوار واللغة والاسترجاع وغيره..فعادة ما تكون الأبواب كمداخل رئيسية لما سنراه ونشاهده كصورة قبلية،أي؛لما سيشدنا فيما بعد،لذلك اعتمدت الكاتبة سلوى الإدريسي بشكل فني جميل، عن الحكي السردي المتناسق ،لكي تخبرنا عن فصول قصة قصيرة ،لاتعدو أن تكون ذات ارتباط عضوي بالواقع المجتمعي.– وأي واقع تريده بالذات ..!؟ -لعله صور من واقع لفئة ما من المجتمع، إنها بدون عنوان ،وبدون اسم.. وبدون صورة.. وكله علامات للتعجب والاستفهام.. بالفعل؛استطاعت القاصة سلوى الإدريسي،أن تخلق لنامشاهد حية وواقعية،عبر نصها هذا،أي عن أولئك الذين يعيشون على الهوامش..– هم يقتاتون كالقطط من الحاويات..– يلبسون الأسمال..– لايعرفون طريقهم لعالم الماء إلاحينما يشتد بهم العطش..أشعت؛ أغبر..هم ليسوا ببوهميين ،البثة..!هم مشردون..!عالمهم الشارع..!ثلاجاتهم الحاويات..!هم بشرمثلنا ..!لكنهم لا يحزنون..لكنهم لا يبكوون، ولا يحلمون ..!على حد كلام محمود درويش هم لا حظ لهم في الدنيا.
ولا في حياة العطر والنظافة والأكل المألوف لدى البشر العاديين..!نعم ؛بأسلوب قصصي – مسترسل، خالي من الاطناب والتكرار،تغنت القاصة سلوى الإدريسي بجملها الشعرية و الأدبية العميقة في المعانى،والقوية في الدلالة و التعبير النفسي والباطني ..حين تكتب مايلي:
– غادرت دون أن تنطق بكلمة واحدة،وهي تجر ثيابها تحت أقدامها وكأنها تكنس الشارع،والغبار وبعض الأوراق تلاحق ظل ردائها المهلهل ، بينما كنت أراقبهاحتى وصلت إلى نهاية الشارع واختفت بين المارة””لو كنتُ رجلا لما عاملتني بهذه الطريقة “وعصافير بطني تزقزق من الجوع”لقداستطعت القاصة أن تعطي لشخوصها أدوارارئيسية وبالتساوي،وهذاما تذهب إليه القصة القصيرة والرواية الجديدة اليوم،وذلك تبعا لان روب جرييه ،بحيث لايوجد بطلا رئيسيا يتمركز حوله السرد؛بل هناك أبطال كثر.ولكل واحد منهم دوره..كما أن النصوص التي تبدعها سلوى_ادريسي_والي ترتكز فيها على الشخصية واللغة معا،وهذا شيء يثير فضول القارئ، إذا ما أضفنا له اللمسة الفنية والسحرية في تغبيش مسار الحكي عينه. وجهلنا كذلك لتسلسل الأحداث تباعا،ممايجعلناكقراء نطرح علامات استفهام :– عن ماذا سيقع لهذا الشخص الجالس قرب الحاوية..!؟-وما الفائدةمن جلوسه قرب الحاوية..!؟وبذلك كان للفضاءوالمكان رمزيتهما المؤثرة في نسيج الحكي ووقائع الأحداث.والدليل أن القاصة وبأسلوب الكبار في مجال الخيال والإبداع أعطت الكلمة للبطل الأول كي يبدأ تفاصيل سرده السحري بلغة المتكلم ،وهذا فيه نوع من الرقي في مجال الكتابة الحديثة للنص القصصي والروائي معا بطبيعة الحال ..كنت أجلس متكئا على الحاوية المقابلة له،وكان هو يقلب داخل إحدى الحاويات ويختار أجود ما فيهاو يضعه في كيس كبير معلق على كتفه…لاأنكر أنه لفت انتباهي بطريقة تقليبه المميزة ، فقد كان يفحص الأشياء بعناية ويقيس قطع الملابس المناسبة له ويترك مالا يناسبه ،قلت في نفسي..”لو كنت مكانه لما تركت قطعة واحدة النص يحمل لنا معاني كثيرة عبر خيال الصورة المعبرة والتراجيدية، عن نوع من الشخصية المعزولة ،التي تعيش بيننا ،مهملة ،كالمهملات عينها، قد لانكلمها ولاتكلمنا..ونضع دائما مساحة بيننا و بينها،إنها من عالم آخر،ومن كوكب آخر. وأرادت القاصة سلوى الإدريسي أن تعطيها تواجدا ما عبر لغة الأدب الإنساني. ولكي تكشف لنا عن نوع من تلكم الشخصيات التي نفضها المجتمع..أولئك هم الذين يعيشون في حروب وجودية دائمة..أولئك هم المتواجدون خارج خريطة المجتمع والمدينة الفاضلة ،ولهم ملك وعقار خاص،كما تسرد القاصة بجمالية : ” أ
مرتها بالرحيل وعدم العودة إلى هذا المكان،فهو ملك لي،وأشرت بيدي إلى عشة في آخر الشارع وقلت : وذاك منزلي.
Share this content: