
ترى، من تكون؟؟
البحر يمتد أمام ناظريك إلى ما لا نهاية.. مياهه تعكس زرقة سماء صافية لا شية فيها.. في روعة المكان وهدوئه، يستريح القلب..وفي غمرة التأمل تتوالى الأفكار على خشبة مسرح الذاكرة.. حكاية “البحار والمتعلم” تجتاحك كلية وعلى حين غرة.. لم تعد تتذكر كاتبها، ولا راويها.. لكنك تذكر كل تفاصيلها وحيثياتها… حتى لكأنك ثالث الرجلين على نفس المركب العتيق.. تسمع حواراتهما.. تتابع حركاتهما.. وترصد انفعالاتهما.. الرجلان يجلسان متقابلين.. أحدهما في مؤخرة المركب، قد دبغت أشعة الشمس جلده، وشدت أمواج البحر عضلات ساعديه.. رجل يتقن التجديف، ويعرف طريقه وسط الأمواج.. تماما كما النحلة تعرف الطريق إلى خليتها وسط الأدغال.. والآخر في مقدمة المركب، يلبس نظارات طبية، ويحتضن كتابا.. رجل بارع في ترويض الحروف.. تفحص واجهة الكتاب طويلا، ثم رفعه مزهوا أما ناظري رفيقه، وقال محطما ذلك الصمت اللذيذ:
– كتاب رائع!.. وكاتب أروع!!..
هشَّ البحار كتفيه في غير اكتراث، وتابع التجديف..
– هل سبق أن قرأت كتاباً؟؟..
– لم أرتد المدرسة يوما في حياتي..
– أوه!.. كم هو محزن!..
ثم بعد صمت وجيز، وبصوت أسيف:
– الصراحة أقول لك صديقي أنك قد أضعت نصف حياتك!…
أسرها البحار في نفسه، ولم يجادل.. تابع سبيله في البحر سربا..ومن رحم المحيط، أطلت غيمة داكنة على الكون.. ما لبثت أن صارت عاصفة هوجاء استحالت معها زرقة السماء والمياه معا إلى سواد قاتم..وتمايل لها المركب الصغير بداية، ثم أخذ يهتزَّ لها اهتزازا.. التفت البحار إلى المتعلم ونظر مباشرة في عينيه:
– والسباحة؟؟.. هل تعلمت فنونها يوما؟؟..
امتقع وجه المتعلم.. تلعثم.. حرك رأسه بالنفي مستسلماً..
صاح البحار، صادقاً وليس شامتاً:
– الصراحة أقول لك صديقي أنك اليوم قد أضعت حياتك كلها!!…
تلكم حكاية درسناها ونحن بعد صغار، ولم ندر حينها أنها تخبئ بين طياتها سؤالا كبيرا عن مغزى الحياة، وموقع الإنسان فيها..واليوم، على شاطئ التفكير والتأمل، ها أنت تسائل نفسك: ” ترى من تكون؟؟ “..
أأنت ذلك المتعلم الذي يتعلم من الكتب ما لم يتعلمه من الحياة، فيبدع في كتابة فصول الحياة لكنه لا يعرف كيف يعيشها؟؟..
أم أنت ذلك البحار الذي يواجه المصاعب، ويركب الأهوال ومخاطر الحياة بصدر عار، فيعيشها حدَّ الاحتراق، لكنه لا يقدر كتابتها؟؟..
نورالدين زرفاوي
في 23 أبريل 2025
ألف تحية للروائي المبدع سي نور الدين مهندس النصوص على الطريقة الأمريكية، أشبهه عادة بصاحب الشيخ والبحر وداعا للسلاح، آرنست همنغواي المفاسيس

Share this content: